كتب لي أحد الأصدقاء من أساتذة الفلسفة النابهين معلقاً على مقالتي الأخيرة في "الاتحاد" حول الفرص الضائعة في الفكر الإسلامي :"كيف يكون المبحث الكلامي فرصة للتجديد في الثقافة الإسلامية على الرغم أنه خطاب جدلي للدفاع عن العقائد الإيمانية، وليس منهجاً عقلانياً في البحث في شؤون الوجود والمجتمع؟ أليس المطلوب هو بعث الخطاب الفلسفي وتدريسه والإبداع من داخله؟". استأذنت الصديق في الرد على استشكاله في هذه الصفحة، معتبراً أن الاستفهام الذي ورد على لسانه يعكس موقفاً واسعاً في الساحة العربية من علم الكلام، تلتقي فيه تيارات واتجاهات من مشارب شتى. فالفلاسفة منذ العصر الإسلامي الوسيط يعزفون عن المبحث الكلامي، ويرونه عديم الجدوى، ضعيف القاعدة النظرية، فهو مبحث "جدلي" ،"خطابي" يعوض لدى العامة النقص في الملكات البرهانية (الفارابي، ابن رشد...). وأخطر ما في علم الكلام بالنسبة للفلاسفة، هو أنه وإنْ تعلق بالإلهيات، إلا أنه يقحم نظره في المسائل التي يحتكرها الفلاسفة لأنفسهم كالعالم والنفس والجوهر والأعراض... وعلى الرغم من ما ظهر من بعض المشتغلين العرب المعاصرين بالفلسفة من إعادة اعتبار لعلم الكلام (كعلي سامي النشار سابقاً وطه عبدالرحمن، وأبي يعرب المرزوقي في أيامنا)، فإن الصورة السلبية عن المباحث الكلامية لم تتغير نوعياً. أما المختصون في الدراسات الشرعية، فقد سيطرت عليهم في السنوات الأخيرة النظرة السلفية الموروثة عن قدماء الحنابلة المعروفين برفضهم الشديد للمباحث الكلامية، وما تقوم عليه من تأويل في أمور العقيدة. فالدراسات الكلامية انهارت في أغلب الجامعات الإسلامية، وبعضها تحجم عن تدريسها تعللًا بما تحدثه من "تشويش" على عقائد الناس. والتيارات الإسلامية السياسية تعادي المباحث الكلامية، وترى فيها مجرد "ترف فكري" متأثر بالفلسفات والنظريات المستوردة، متجهة إلى إعطاء مفهوم "التوحيد" دلالة نضالية ملتزمة (كما هو المسلك الذي اعتمده سيد قطب في كتابه خصائص التصور الإسلامي ومقوماته). ومن الجلي أن الخطاب الإسلامي المعاصر استبدل منذ مطلع الستينيات مباحث الكلام بأدبيات الإعجاز العلمي، التي اعتبرها أقدر على الدفاع عن الدين والعقيدة، (بدا الهندي وحيد الدين خان هذا النهج في كتابه الإسلام يتحدى). بل إن المبحث الكلامي، ظل الجانب الأضعف في حقل الدراسات الأكاديمية في عالمنا العربي. فبعد المحاولات الأولى التي قام بها أحمد أمين وعبدالرحمن بدوي وسامي النشار... ضعف الاهتمام بعلم الكلام، ولم يتجدد الاهتمام به إلا في الثمانينيات على يد الجابري وحسن حنفي في سياق مشروعيهما الإصلاحي، ولذا فإن هذا الاهتمام كان داخلاً في مشروع أوسع لقراءة التراث وإعادة امتلاكه، وليس لأسباب علمية محضة. والغريب في الأمر، أن الدراسات الكلامية على عكس ما هو الحال في العالم العربي أثارت اهتماماً واسعاً في الجامعات الغربية. فأهم ما كتب في تاريخ الفرق الإسلامية والمذاهب الكلامية في السنوات الأخيرة صدر باسم أساتذة غربيين بارزين من أضراب الألمانيين "ولفريد مادلونج" و"جوزف فان اس" والإنجليزي "مايكل كوك" والفرنسي "دانيل جيماريه". وقد تحسنت الصورة جزئياً في السنوات القليلة الماضية، نتيجة لبروز مدرستين أكاديميتين متميزتين في المغرب وتونس، أعطتا اهتماماً غير مسبوق للمباحث الكلامية من منظور المناهج الإنسانية وفلسفات التأويل المعاصرة. ففي المغرب، ظهرت أعمال علمية رصينة في تاريخ وبنيات الخطاب الكلامي (كدراسة سعيد بن سعيد العلوي الرائدة حول الأشعرية)، في الوقت الذي بلور "طه عبدالرحمن" خطاً منهجياً لدراسة المنهج الكلامي من منظور منطق الحجاج والمناظرة الحديث. وفي تونس، برزت أعمال "أبو يعرب المرزوقي"، التي قدم فيها مقاربة جديدة للمباحث الكلامية (تعضدها ثقافة فلسفية استثنائية)، انتصر فيها علمياً للعقل الكلامي في مقابل الفلاسفة المتأثرين بالمعقول اليوناني، في الوقت الذي نوقش في الجامعة التونسية عدد مهم من الرسائل المتميزة تناولت إشكالات ومواضيع شتى من المبحث الكلامي، برزت من بينها أطروحة "محمد بوهلال " الرائدة حول الغزالي ،التي شفعها بأعمال أخرى لا تقل عنها أهمية. هل يعكس هذا التطور الإيجابي في المبحث الأكاديمي إعادة النظر في الموقف السلبي الرائج من علم الكلام؟ يتعين بداية الإقرار إجابة على هذا السؤال بأن هذه الدراسات لم تؤثر تأثيراً يذكر لا في حقل الدراسات الشرعية، ولا في التيارات الإسلامية السياسية. فلا تزال محاولات تجديد علم الكلام محدودة، ضعيفة الفاعلية. وللتذكير، نشير إلى أن المحاولة المعاصرة الأولى لتجديد الكلام، تمت في نهاية القرن التاسع عشر على يد الإمام محمد عبده، الذي أراد في كتابه "رسالة التوحيد" إعطاء معان جديدة للتوحيد والعدل مع البقاء في الحيز الكلامي الوسيط. وفي ثلاثينيات القرن الماضي، ظهرت محاولة "محمد إقبال" التي قدمت تصورات جديدة لبنية المنظور الكلامي لم يكتب لها أي تأثير. وفي الفترة الراهنة، ظهرت محاولة "حسن حنفي " إعادة بناء علوم العقيدة في عمله الموسوعي الجدلي "من العقيدة إلى الثورة" ذهب فيه إلى محاولة بناء "لاهوت تحرير" إسلامي على غرار "لاهوت التحرير" المسيحي، الذي عرفته أميركا اللاتينية بتأثير من الاتجاهات "اليسارية". ولم ترض محاولة حنفي الأكاديميين لما طبعها من سمة نضالية طاغية، في الوقت الذي أثارت نقمة واسعة في أوساط التيارات الإسلامية ذهبت حد التكفير. ولعل أهم محاولة تمت لتجديد المباحث الكلامية هي مدرسة "الكلام الجديد" الإيرانية التي ظهرت لدى علماء وباحثين مرموقين من نوع "عبد الكريم سروش" و"مصطفى ملكيان" و"مجتهد سيشتري"، وقد أصبح لها بالفعل تأثير واسع في الحوزات والجامعات، وفي حركية الإصلاح التي يكثر الحديث عنها حالياًَ. إذا كانت الحصيلة- كما ظهر لنا - هزيلة في عالمنا العربي، فهل تجديد الكلام هدف مطلوب علميا وإصلاحياً، أم هو ترف فكري لا حاجة إليه وطموح لا طائل يرجى منه؟(للموضوع صلة).