لا تزال تداعيات الاعتداء الذي تعرض له أقباط مصر صبيحة عيد الميلاد، 7 يناير حسب التقويم الشرقي، في مدينة نجع حمادي، تتفاعل، وتثير نقاشات في كل اتجاه. وأجمعت أغلبية قاطعة من المصريين والعالم العربي على استنكار هذه الجريمة الشنعاء، ومع اتساع مجال النقاش دعت القوى السياسية الليبرالية الأقباط، كما أشارت بعض التقارير الصحفية "إلى ترك عزلتهم السياسية والمشاركة بفاعلية في العمل السياسي العام". الأوساط القبطية طالبت من جديد بإلغاء المادة الثانية من الدستور التي تنص على أن الشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع. وكذلك إلغاء مبدأ أن الإسلام هو الدين الرسمي للدولة، على أساس أن الدين للمواطنين، ولا يجب تديين الدولة بمؤسساتها. وطالبت كذلك بشطب خانة الديانة من بطاقات الهوية الشخصية، وإصدار قانون البناء الموحد لدور العبادة الإسلامية والمسيحية وحتى اليهودية، حيث أن بناء وتوسعة وترميم الكنائس لا تزال من أصعب المشكلات التي تواجه الأقباط، والامتناع عن أسلمة الشوارع والميادين والقرى التي احتفظت بأسماء مسيحية مثل ميدان "فيكتوريا" الذي تحول إلى ميدان "العزيز بالله". وطالبوا كذلك بالعودة إلى تدريس مناهج التربية الوطنية في المدارس، واستبعاد المناهج التي تشكك في معتقدات أي طرف، وتحرير التعليم العام من الخطاب المتطرف... وتتوالى التقارير عن تناقص مستمر في عدد المسيحيين في دول الشرق الأوسط بما في ذلك الأراضي المقدسة بفلسطين. وهي ظاهرة بدأت منذ سنوات ليست بالقليلة، ولكنها الآن صارت في غاية الوضوح. وقد جاء في مقال للدكتور رشدي سعيد حول "الوجود المسيحي" أن تراجع عددهم قد بدأ في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ولكن معدلات الهجرة زادت سرعتها في الفترة الأخيرة زيادة كبيرة. فقبل إدخال نظام الدولة الحديثة إلى منطقة بلاد الشام الكبرى، كان أكثر من نصف سكان لبنان، كما كان ثلث سكان سوريا من المسيحيين. وكانت أغلبية السكان في بيت لحم والناصرة والقدس بشكل ظاهر من المسيحيين. "أما اليوم وبعد أكثر من خمسين سنة من دخول أنظمة الحكم الحديثة بمنطقة الشام، فقد تناقص هذا الوجود تناقصاً ظاهراً حت درجة الاختفاء الكامل في بعض هذه المدن". بل كانت المنطقة في الواقع "بمثابة موزاييك يعج بمختلف الأقليات العرقية التي يعود تاريخها إلى آلاف السنين كالآراميين والكلدان والآشوريين والأكراد والتركمان والأرمن، وكذلك بمختلف الأقليات الدينية كاليهود على اختلاف مللهم والدروز والشيعة الاثني عشرية وعبدة النار وغيرهم كثير". وتؤكد تقارير أخرى نشرت قبل عام إلى أن مسيحيي الشرق الأوسط قد تقلصوا من 20 في المئة إلى 5 في المئة من السكان. ففي بيت لحم التي شهدت مولد المسيح، يشكل المسيحيون حالياً بالكاد ثلث السكان بعد أن كانت نسبتهم 80 في المئة على مدار عقود عديدة. ومنذ قرن مضى، كان هناك ملايين المسيحيين فيما يعرف حالياً بتركيا. أما اليوم فلا يتجاوز عددهم 150 ألف شخص. ويخلو كل من المجلس الوطني والمؤسسة العسكرية من أعضاء أو ضباط مسيحيين فيما عدا المجندين المؤقتين الذين يقضون فترة التجنيد الإلزامي. إضافة إلى ذلك شهدت البلاد تنامياً في أعمال العنف ضد المسيحيين. وتتميز الضفة الغربية في فلسطين بطابع علماني أكبر، كما تحاول السلطة الفلسطينية دمج المسيحيين لتحقيق الاستقرار ووقف النزيف السكاني. ولكنها جهود فاشلة فيما يبدو، أما "غزة"، فالأرجح أن من يترك الضفة الغربية من المسيحيين، لا يهاجر إلى القطاع! وقد علّق موظف سوري بمجال الإغاثة الدولية بالقول: "عندما يكتشف أقراني العرب أني مسيحي، يبدو عليهم الشعور بالصدمة إزاء اكتشاف أنه بمقدور شخص ما أن يكون عربياً ومسيحياً في الوقت نفسه". وحتى في لبنان، البلد الذي لعب فيه المسيحيون دوراً أساسياً في مجالات الفكر والثقافة والأدب العربي، يتوقع المراقبون انحسار نسبة المسيحيين إلى ما دون 19 في المائة عام 2020. ويرى "هاني فحص"، أن تناقص المسيحيين "يشكل خللاً ثقافياً في الحضارة العربية - الإسلامية. وإذا كانت بلادنا العربية والإسلامية في حاجة إلى المسلمين، فهي إلى المسيحيين أحوج". وأضاف محذراً من تنامي الظاهرة، "ما يحدث الآن عيب ثقافي وعيب ديني وعيب اجتماعي، إن خلو لبنان أو العراق من المسيحيين أو أضعافهم، لا يعني أن المتبقين من المسلمين سيعيشون بأمان وازدهار، بل ستدب الخلافات والصراعات بينهم وستكون مفاعيلها أقصى وأعمق". ويمكن الإشارة كذلك، بالإضافة إلى هذا الدور للتعددية الدينية والمذهبية، إلى طبيعة المجتمعات الإسلامية في العديد من المراحل التاريخية حيث كانت هذه التعددية جزءاً بارزاً من الحياة الاجتماعية، بل كان بعض المسيحيين واليهود وغيرهم يتولون مهام وزارية، فضلاً عن عطائهم الأدبي والفني والثقافي وتأثير وجودهم على ازدهار المجتمع وحيويته. إن مسيحيي العراق، يقول "هاني فحص": "هم الأكثر عراقية من كل المكونات الأخرى ونقصهم مؤشر خطير. أنا عشت في العراق، وهذا السلوك الذي أراه بحق المسيحيين سلوك مستهجن. نحن كنا متدينين إسلامياً قبل أربعين عاماً أكثر بكثير من كل الأحزاب الدينية السنية أو الشيعية، وكنا مدنيين أكثر من كل الأحزاب العلمانية. لم يحدث شيء من العنف حينها داخل المجتمع العراقي، كان العنف كله هو عنف الدولة، أما الآن فالعنف ناتج من فئات إرهابية معينة. وأضاف: أن يتحول عنفاً مقبولاً لدى الطوائف والأديان.. ما يحدث هناك خطر على الشيعة والسنة والأكراد". ولكن لماذا يغادر المسيحيون منطقة العالم العربي والإسلامي والشرق الأوسط؟ يجيب د. رشدي سعيد، "بأن فشل الدولة الحديثة في تطبيق الديمقراطية أو في الفصل بين الدين والدولة كان وبالاً على الجميع وخسارة على المجتمع كله. فقد تأخرت هذه الدول في سلم التقدم الاقتصادي والاجتماعي، وفي الاستفادة من طاقات أبنائها أو إمكاناتها، وتأثرت بالتالي حياة جميع أبنائها، يتساوى في ذلك من انتمى معهم إلى الأكثرية الغالبة أو إلى الأقليات". ويتهم د. جورج قرم، عالم الاجتماع ومؤلف كتاب "تعدد الأديان وأنظمة الحكم"، الاستعمار، الذي "كان يتدخل في شؤون تفاقم مجازر ضخمة في نهاية الحرب العالمية الأولى بالنسبة إلى الأرمن واليونانيين. أما بعد ذلك فحصلت كارثة فلسطين وهاجر المسيحيون بأعداد كبيرة للغاية حتى لم يبق منهم إلا 2 في المئة من نسبة السكان في الأراضي المحتلة". وعن وضع المسيحيين في العصر الراهن يقول المطران جورج خضر إن هجرتهم من لبنان تتعلق بالأسباب الاقتصادية والسياسية، فعامل الأصولية الإسلامية لا يضغط بشدة على هذه الظاهرة ويضيف: "منذ زمن بعيد في القرن التاسع عشر، هاجر المسيحيون في لبنان طلباً للرزق، وهذا العامل المادي لا يزال قائماً، لاسيما أن تردي الأوضاع الاقتصادية بدأ مع الحرب الأهلية، ورحيل اللبنانيين لم ينحصر بفئة معينة، فالإحصائيات التي نشرت في مرحلة الاقتتال تدل على أن عدد المسلمين الذين هاجروا لم يكن أقل بكثير من المسيحيين. وبالنسبة إلى العامل السياسي فقد شعر المسيحيون بأن نفوذهم ينحسر، وتصوروا أن هذا الأمر مرتبط بتقلص عددهم. وفيما يخص العلاقة بين الأصولية الإسلامية وهجرة المسيحيين، لا أعتقد أن الأصولية في هذه المنطقة ترى المسيحيين كثيراً في أفقها، فهي تشن حربها بالدرجة الأولى ضد المسلمين الليبراليين". ولكن هل يمكن تبرئة جماعات التشدد والإسلام السياسي من أي تأثير سلبي في تنامي هذه الظاهرة؟ ويرى الصحافي المسيحي "سركيس ناعوم"، مثل كثير من مثقفي العالم العربي أن الحل يكمن في عزل الدين عن السياسة، ويقول: "في حالة عدم التحول باتجاه العلمانية داخل العالم العربي، لا أعتقد سيبقى هناك مستقبل أمام المسيحية هنا". أما تأثير خروج المسيحيين من هذه البلدان، وانفراد الإسلاميين بالمطالبين بالحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان من المسلمين.. فكارثة أخرى. فيا كل مسيحيي المشرق.. لا تتركوا دياركم وديارنا!