شاركت خلال الأسبوع الماضي في المؤتمر السنوي لمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية حول التعليم وسوق العمل في دول مجلس التعاون لدول الخليج العربي. الجلسات شهدت حواراً على مستوى عال وعلمي، ساهمت فيه أطراف متعددة تمثل تجارب عالمية وإقليمية ومحلية. الخلاصة الشخصية أن الصورة لازالت ضبابية عند الكثير من الناس، بل وأهل الاختصاص حول الدور المطلوب من الجامعات. ملخص ما يريده أرباب العمل من الجامعات هو موظف جاهز للعمل من أول يوم له، وهذا دور مستحيل، بل وغير واقعي، لأن الجامعات لا تخرج موظفين، بل مفكرين وهذه ممارسة عالمية معروفة في العالم، وهذه الممارسة لمصلحة الدول وسوق العمل في الوقت نفسه. كلنا يعلم أن سوق العمل المعاصر يشهد تقلبات مستمرة، ويتطلب مهارات مختلفة تتناسب مع التحديات، لذلك سمي بسوق عمل المعرفة أو اقتصاد المعرفة، والمعرفة لن تحصر في كتاب أو مادة تدرس في الجامعة كي ينفذها المتعلم في يوم توظفه، المعرفة عملية بنائية تبدأ في الجامعة، وتستثمر في سوق العمل، فدور الجامعات يتخلص في تزويد المتعلم بمفاتيح المعرفة وأدوات التفكير المختلفة، والتي من أهمها التفكير الناقد والتفكير الإبداعي، الذي يقودنا إلى حل المشكلات بطرق خلاقة، كما يعين الإنسان على اتخاذ القرارات المهمة، وبالذات في لحظات الأزمات التي يعيشها سوق العمل. ومن جانب آخر، فإن هذه المهارات والمعارف نفسها، يحتاجها الإنسان كي يعيش بسعادة في حياته الاجتماعية بعيداً عن سوق العمل ومتطلباته، فهو مواطن في بلد له انتماء وولاء وليس مجرد أداة في سوق العمل العالمي يقلبه السوق كيفما شاء، وينقله من بلد إلى بلد آخر حسبما كانت المصلحة. وهنا تكمن خطورة أن تكون الجامعات ذات صبغة عالمية ليس لها هوية وانتماء وطني، لأنها ستخرج لنا في النهاية عمال، العالم وطنهم، والمصلحة تحركهم، وولاءهم يُشترى بالدولار واليورو، وآخر همهم مصلحة أوطانهم. هذا لا يعني أبداً أن لا يكون في الوطن معاهد وكليات مهنية وحرفية تخرج مستويات متوسطة من الموظفين والعاملين، لأنه من الصعب توقع أن يكون كل خريج من الثانوية العامة جاهزاً للالتحاق بالجامعات والدراسات العليا، فهناك صنف من البشر هم للأداء منهم أقرب للتنظير، وهم عنصر مهم في سوق العمل اليوم وفي المستقبل. لو قامت مؤسسات التعليم العالي بهذه الأدوار، فماذا نتوقع من أرباب العمل؟ الأمر الأول يكمن في تجسير انتقال الخريج من حقل المعرفة إلى ميدان العمل، وهذه العملية مفقودة في ظل توقعات خادعة بأن خريج الجامعة جاهز للعمل من أول يوم، فلابد من برنامج إعداد في كل مهنة لا يستغرق فترة طويلة ينتقل من خلاله الإنسان كي يمارس ما تعلمه من مهارات ومعارف في بيئة عمل جديدة، ونفس الفكرة والجهد مطلوب كذلك كل خمس سنوات، على الأكثر كي يعاد تأهيل الموظف لسوق عمل متجدد ومتغير. لو قامت مؤسسات التعليم العالي بدورها كما ذكرت آنفاً، وانفق أرباب العمل بعض أرباحهم على التدريب المستمر للموظفين، فإن الأمر لن يتطلب من الحكومات أكثر من تخطيط واضح لمسار قوى العمل، كي لا يكون عندنا بطالة فعلية أو مغلفة، وعندها فإن دولة مثل الإمارات العربية المتحدة، التي تؤمن للعالم أكثر من 4 ملايين فرصة عمل لن يكون فيها مواطن باحث عن عمل.