ذكريات "ربيع العمر" تبقى -كما نبت الربيع- يافعة دوما، وبالتالي حاضرة. ففي زيارتي الأخيرة لمدينة أبوظبي داهمتني الذكريات عن أحداث وشخصيات بقيت أثيرة لدى نفسي رغم انقضاء 41 عاما. ومن نعم الله على عباده تخفيفه ظلم وفجيعة الأيام الراهنة بذكريات طيبة (نسبيا) من الأيام الماضية، مقرونة مع الأمل في "ذكريات" الأيام القادمة! وأما مناسبة "هجوم" ذكريات الماضي هذه المرة فجاءت، قبل فترة، مع احتفاء صحيفة "الاتحاد" الإماراتية بعيدها الأربعيني. وإذا كانت صحيفة "الاتحاد" (بمدلول اسمها) قد سبقت "الاتحاد" السياسي المتجسد -لاحقا- في "دولة الإمارات العربية المتحدة"، فإن فكرة "الاتحاد" في وجدان ووعي المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان سبقت الصحيفة. وإنني لواحد من الشهود على ذلك. فقد كنا نحن العاملين يومها في "دائرة الإعلام" في إمارة أبوظبي والتي كان يرأسها الشيخ أحمد بن حامد، وبقيادة مباشرة من المرحوم الإعلامي الرائد محمد توفيق الغصين، كنا نزور خيمة ديوان الشيخ زايد ونستمع إليه وهو يتلو حلمين بارزين، لم يكل أو يمل، من تلاوتهما: حلم إمارة أبوظبي الخضراء (كما سويسرا خضراء) وحلم اتحاد سياسي يجمع "الإمارات المتصالحة". هذا الحال، ضرب عندنا -نحن معشر القوميين العرب آنذاك- وترا حساسا، فدخل الشيخ وآماله قلوبنا من أوسع شرايينها، رغم ما كان ينتابنا وقتها من شكوك أوجدها الفشل الذي انتهت إليه عدة صيغ للوحدة بين الدول العربية في سنوات الستينيات تحت وطأة "تعارض" المبادئ الوحدوية مع المصالح القطرية، وكان أفدحها -بالطبع- فشل تجربة "الجمهورية العربية المتحدة" بين مصر وسوريا. أما اليوم، فلا نكاد نصدق كيف تمت المواءمة ما بين مبدأ وحدة "الإمارات المتصالحة" من جهة، والمصالح المحلية على مستوى كل إمارة من جهة ثانية. وقد تم ذلك بالفعل على أسس طوعية اختيارية حرة دون مبالغة في الشعارات أو استعجال لأي اندماج غير ناضج. لذلك، حين كنا نسمع ما اعتبرناه في حينه "أحلام يقظة"، كنا ناكرين غير مصدقين! وكلما حدثنا، يومها، العروبي الصادق والسياسي الحاذق أحمد خليفة السويدي، عن تصميم الشيخ زايد في نطاق ذينك الحلمين، كنا أيضا ناكرين غير مصدقين، لولا معرفتنا بصدق الرجل ونفاذ بصيرته! واليوم، نحن نعرف -بالشواهد الراسخة- من كان حالماً وصاحب عزم، ومن كان يشكو -مثلنا- من حالة إحباط أعقبت هزيمة يونيو 1967. ولأن حديث هذه الذكريات يطول، أسارع بالعودة إلى ذلك الجانب الخاص بصحيفة "الاتحاد". وعدني السويدي بدعوتي رسمياً فور تحقق الاستقلال، وهذا ما كان. بل إن تلك الدعوات باتت سنوية في الحد الأدنى، وبالتالي أصبحت شاهدا على ما كانت تشهده أبوظبي (وعموم دولة الإمارات لاحقا) من تطور أخاذ وشامل. أما بخصوص "الصحيفة" التي شهدت انطلاق "فكرتها" النظرية مع مطلع عام 1969، فإنها تجسدت حقيقة مع يوم 20 أكتوبر من ذلك العام. وبعبارات الصديق والأخ راشد العريمي، رئيس تحريرها الحالي، فقد "كانت البدايات متواضعة، بمقاييس اليوم. من شقة صغيرة بشارع المطار، صدرت الصحيفة لتكون صوت الإمارات، تنقل إلى أبنائها صور أحلامهم وهي تتحقق، وتوصل إلى أبناء الأمة العربية والعالم، صدى تجربة رائدة في الوحدة والتطور والنمو. فقد صدرت (الاتحاد) بصفحات قليلة، تعدّها في أبوظبي كوكبة صغيرة من الصحافيين، آمنوا بالفكرة والمشروع وبحتمية الإنجاز. وكان الهدف السامي، يذلل أمامهم صعوبات المهنة. فوسائل الإعداد كانت بدائية، وعملية الطباعة نفسها كانت تجري في بيروت، فتصل الصحيفة إلى أيدي القراء بعد خمسة أيام من إنجازها التحريري". ويتابع العريمي سرد أحداث المسيرة: "ثم جاء التطور السريع الذي شهدته قطاعات الدولة والمجتمع، لينعكس على جريدة (الاتحاد) بشكل نموذجي. فابتداءً من عام 1972، كانت انطلاقتها الكبرى، بالصدور يوميا وبشكل مستمر، من مكاتبها الجديدة، ومن مطبعة في أبوظبي، وبزيادة مضطردة في عدد الصفحات حتى بلغت 40 صفحة. ومن مطلع تسعينيات القرن الماضي، انضوت الصحيفة في إطار مؤسسة عملاقة، تولى الإشراف عليها سمو الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان حينما كان وزيراً للإعلام والثقافة، وضمت إليها الإذاعة والتلفزيون وصدرت إلى جانبها شقيقات أسبوعيات في مجالات متخصصة". ومع تتابع الدعوات لي لزيارة أبوظبي (وقد باتت خضراء حقا) كان لابد من العودة دوما إلى موقع البداية حيث الذكريات والأصدقاء: وزارة الإعلام وصحيفة "الاتحاد". وقد حللت ضيفاً على "الصحيفة" حين كان الأخ الدكتور عبدالله النويس رئيس تحريرها إذ دعاني للقيام بجولة ابتدأت في أبوظبي وانتهت برأس الخيمة، مروراً بدبي والشارقة وعجمان، لإلقاء محاضرات عن القضية الفلسطينية. ثم أعقب ذلك لقاء صحفي شامل في الصحيفة ذاتها وكذلك في تلفزيون أبوظبي الفتي والناهض يومها. ومع عيد تأسيسها الأربعين، خرجت "الاتحاد" في حلة جديدة أكثر أناقة بعد أن بات يطالعها عشرات الآلاف من أهل وسكان الإمارات وغيرهم في الدول العربية والعالم، وهي اليوم تجهد لمواكبة التطورات الهائلة في عالم الإعلام العصري، وبخاصة من حيث التدقيق في الخبر وفي طرح الرأي برشد واضح بعيداً عن الإثارة والمهاترات. ومعلوم أن "الاتحاد" تصدر يومياً، بما يقارب المائة صفحة تغطي أبوابها وملاحقها المختلفة. وعلاوة على متابعتها للحدث -محليا كان أم عربيا أم دوليا- بأسلوب الإعلام الرصين، تقدم الصحيفة -يوميا- في صفحات "وجهات نظر" مجموعة مقالات بأقلام كوكبة من كبار الكتاب مما يشكّل طبقا يوميا، فكريا وسياسيا واقتصاديا، من صنع "طباخين" متميزين. لقد كان من ضمن مصادر اعتزازي الأثيرة حقيقة كوني كنت على الدوام قريبا من صحيفة "الاتحاد" ومن تجربة "الاتحاد"... وها أنذا مستمر في علاقتي بهذه الصحيفة منذ ولادتها، وإلى أن أصبحتْ يافعة... بينما أصبحت أدق أبواب الكهولة! وحقاً، لطالما كانت صحيفة "الاتحاد"... لفلسطين وللعرب يومئذ... ولا تزال.