"منتخب الفراعنة" هكذا يصرخ المعلقون عقب كل هدف يحرزه المصريون في مرمى منافسيهم، وهكذا كانت الصورة التي حاول البعض منا أن يرسمها وقت أزمة مصر مع الجزائر التي خلفتها المباراة الفاصلة لتصفيات كأس العالم في أم درمان. ولا غرو في اعتزازي -كمصري- بتراث أجدادي الفراعنة الذين شيدوا أول دولة في تاريخ الإنسانية، وبنوا حضارة عظيمة لا تزال آثارها باقية إلى الآن. ولكنني أعتز بالقدر نفسه بالطبقتين الحضاريتين والتاريخيتين الأخريين اللتين مرت بهما مصر، وهما عبارة عن ستة قرون مسيحية وأربعة عشر قرناً من الإسلام. وفي بلد يبدو أنه يشكل "متحف أجناس بشرية" سأكون معتزاً أيضاً بأجدادي القبط والمسلمين، وسأردد المقولة الأثيرة التي ترى أن "مصر وثيقة من جلد رقيق، الإنجيل مكتوب فيها فوق هيرودوت وفوقهما القرآن، وتحت الجميع لا تزال الكتابة القديمة تقرأ بوضوح وجلاء". في الحقيقة، فطالما انتاب بعض المصريين في أيام الهزائم والانكسار التي ألمت بالعرب قنوط شديد حيال هويتهم العربية، وانسحبوا داخل أنفسهم، وأحاطوها بسياج محكم من الانتماء القُطري الضيق، الذي ينزع مصر من سياقها الأوسع، ويقطع صلتها بتاريخها ومصالحها في آن. ويستدعي الذهن هنا جدلا قديماً، لم يصمد أمام دفع التيار الأكبر في الحياة الاجتماعية الثرية للمصريين بمختلف شرائحهم الاجتماعية ومشاربهم الفكرية وتوجهاتهم السياسية، حول هوية مصر، التي أراد لها أحد حكامها، وهو الخديوي إسماعيل، يوماً أن تكون "قطعة من أوروبا"، وتمناها طه حسين "متوسطية"، وأراد لها البعض أن تجلب "الفرعونية" فقط، إلى الحاضر المعيش ولا تتركها منسية في التاريخ البعيد. وسعى آخرون إلى ليِّ عنق الشعار العظيم الذي رفعته النخبة السياسية والاجتماعية والفكرية إبان أيام الاحتلال وهو "مصر للمصريين"، ليستمر في الزمان والمكان، غريباً على مفهومه المحدد الذي قصده من تبنوه، ليست له أدنى علاقة بالهدف الذي رفع من أجله. هذا الجدل، الذي يطفو ويغوص، يتأجج ويخبو، بين حدود النخبة المصرية، يصادر على الميول النفسية والتصورات الذهنية والأبعاد الاجتماعية بحمولاتها الدينية والعقدية، لشعب برمته، لم يشك يوماً في هويته العربية، ولم يجد أي داعٍ لطرح تساؤل حول هذا الأمر، بل يعلو على جدل المثقفين، ليراكم مما تنتجه قريحته، ما يؤكد توجهه الفطري نحو العروبة، متحرراً من عُقد النخبة المصرية وظنونها، مع أنها لم تبرح، على مدار أكثر من قرن ونصف من الزمن المكان نفسه، الذي مكث فيه الرعيل الأول من المفكرين المستنيرين، والساسة الأحرار. إن القريحة الشعبية المصرية تسطر توجهاتها بعفوية، لا تعرف تخطيط المثقفين ومآربهم الموزعة على مصالح ضيقة أحياناً، وتتلمَّس خطاها بشفافية لا تتوقف أبداً أمام نصوصهم التي يلفها الغموض وتصيبها المواربة. وهذه التوجهات تقطع أي شك حول عروبة مصر. فالأشخاص الذين يتخذهم أغلب المصريين قدوة ومثالا هم من عرب الجزيرة، وعلى رأسهم الرسول صلى الله عليه وسلم في الأخلاق والورع، وعمر بن الخطاب في العدل، وخالد بن الوليد في الشجاعة، وعمرو بن العاص في الدهاء. والممقوتون هم عرب أيضاً، يتقدمهم الحجاج بن يوسف في التجبُّر، وأبو لهب في الكفر، وعبدالله بن سلول في النفاق. والأبطال الأسطوريون الذين تحفل بهم السير الشعبية المصرية هم عرب، مثل "أبو زيد الهلالي"، و"سيف بن ذي يزن"، و"حمزة البهلوان"، و"الزير سالم"، و "ذات الهمة". نعم.. لم تغفل القريحة المصرية السيرة الفرعونية، في "إزيس وأزوريس" و"كليوباترا وأنطونيو" و"عايدة" ، ولم تنسَ حكمة "الفلاح الفصيح" أو ورع "إخناتون" المنادي بالتوحيد، ولكن كل هذه الحكايات ظلت ذات طابع نخبوي، بينما غلب الطابع العربي- الإسلامي على القريحة الشعبية، وبدت الفرعونية تحمل معنىً سلبياً في الخطاب السياسي والديني للمسلمين المصريين وبعض الأقباط، فـ"الفرعونية السياسية" تعني الاستبداد، والفرعون بالمفهوم الديني يعني "المروق والتكبُّر" لكنها احتفظت بجلالها في الخطاب الثقافي لترتبط بأول حضارة إنسانية لا تزال آثارها تشهد على عظمتها. كما مزجت مصر تاريخها، وصهرت كل ثقافات الغزاة الذين مرُّوا بها على مدار التاريخ. ومن هنا لم يكن الجدل حول الهوية ورغبة البعض في الانكفاء على الذات يؤرق المصريين سوى في أيام المحن التي تلم بالعرب، ربما ليأس جارف من إصلاح الحال، أو شوفينية مريضة زائفة للنجاة بالنفس، أو شعور بعدم جدوى الرهان على العروبة، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً. وكل هذا لا ينفي أو يزيح ما تعنيه العروبة بالنسبة لمصر، فهي اللسان واللغة التي حملها دين الأغلبية، والتي يتعامل بها المصريون جميعاً، مسلمين ومسيحيين، في حياتهم اليومية بشتى أحوالها وأصنافها. والعرب أيضاً هم النظام الإقليمي الذي لا تستطيع مصر منه فكاكاً، لأن مصالحها تمتد إليه، وليس بوسعها أن تتجاوز هذا. ولا ينبغي أن ينسى أصحاب دعوة الانكفاء على الذات أن من تحمس للعروبة، وسعى لإنشاء الجامعة العربية، هو حزب "الوفد" الليبرالي، أيام الملكية. ولا ينسى هؤلاء أن أمن مصر القومي كان دوماً في الشمال الشرقي عبر التاريخ، جنباً إلى جنب مع الاتجاه جنوباً لحماية منابع النيل. وإذا كان هذا الجدل حول هوية مصر يتجدد الآن، وفي زمن "الشرق الأوسط الكبير"، ويأخذ شكلا مؤسسياً عبر سعي البعض إلى تكوين "حزب سياسي" يريد أن يولد على أكف هذه الظروف، ويتخذ من الهيروغليفية لساناً بدلا من العربية، فإنه من الواجب عدم التعامل معه على أنه مجرد "سحابة صيف" أو هبة ريح قصيرة ضعيفة لن يكون بوسعها أن تغير مجرى النهر، فهؤلاء الراغبون في تأسيس "حزب فرعوني" يدقون بقوة ناقوس الخطر أمام من يصمدون خلف جدار العروبة الأخير، بأن النزعة القُطرية، التي ظن البعض أنها قد خمدت، يمكنها أن تحيا في مصر وغيرها، والعجيب أنها هذه المرة تدور حول مجرد مباراة لكرة القدم.