لم يكن توني بلير مجرد مكمل عدد لرؤساء الحكومات البريطانية. فهو أول زعيم لحزب "العمال" البريطاني يقود حزبه إلى الفوز بالانتخابات العامة ثلاث دورات متتالية. وهو، تالياً، أول رئيس لحكومة عمالية يحتلّ منصبه ثلاث مرات متتالية أيضاً. ولعل الفترة التي قضاها في 10 داونينغ ستريت (مقر رئاسة الحكومة) لمدة عشر سنوات هي أطول فترة يقضيها رئيس وزراء واحد بشكل مستمر. ومع ذلك فقد خضع للاستجواب أمام لجنة تحقيق قضائية مستقلة مؤلفة من خمسة أعضاء لمعرفة أمرين أساسيين. الأمر الأول هو: هل كذب بلير على الشعب البريطاني عندما برّر قراره بالمشاركة مع الولايات المتحدة في غزو العراق عام 2003؟ والأمر الثاني هو: هل إن الغزو العسكري كان ضرورياً.. وهل كان مبرّراً بموجب القانون الدولي؟ لقد جرى هذا الاستجواب على خلفية اشتراك بريطانيا في الحرب على العراق التي كلفت 10.6 مليار دولار. أما تكلفتها بالأرواح البريطانية فاقتصرت على 179 قتيلاً فقط. وهو رقم كبير في الحسابات البريطانية خاصة في ضوء النتائج السلبية سياسياً ومعنوياً التي أسفرت عنها عملية الغزو. ولكن هذا الرقم من الضحايا هو أقل مما يسقط في العراق في أقل من أسبوع واحد. فالإحصاءات -غير الرسمية- تؤكد أن عدد الضحايا العراقيين منذ الغزو حتى الآن يزيد على المليون شخص! بقد بلغ حجم المشاركة العسكرية البريطانية للولايات المتحدة في عملية الغزو التي استمرت من عام 2003 حتى يوليو 2009، حوالي 45 ألف جندي. ومن خلال هذه المشاركة بدت بريطانيا وكأنها استعادت دورها كدولة عظمى في لعبة الأمم ولو تحت المظلة الأميركية. ولكن لا يبدو أن استعادة هذا الدور أو الإيحاء باستعادته دغدغ جدياً مشاعر الكبرياء لدى البريطانيين، بل إن مجرد أداء الدور البريطاني تحت المظلة الأميركية -وتحديداً تحت مظلة إدارة بوش- زاد من مشاعر الاستياء. ولقد انطلقت هذه المشاعر من الاعتقاد الذي أثبتته الوقائع بأن العملية -عملية الغزو- كانت غير مبررة قانونياً وأخلاقياً. في الأساس قام التحالف الأميركي- البريطاني بين الزعيمين السابقين بوش وبلير على خلفية أن نظام صدام كان يملك أسلحة دمار شامل، وأن له علاقات تعاون مع تنظيم "القاعدة" الذي ارتكب الجريمة المروعة في نيويورك وواشنطن في سبتمبر 2001، وأنه يمكن من خلال هذه العلاقة أن يزود "القاعدة" بسلاح نووي تستعمله ضد أهداف غربية (في أميركا وأوروبا). ومن أجل ذلك عملت أجهزة الاستخبارات على "فبركة" أخبار ومعلومات تؤكد هذه الاعتقادات وتبررها، وهي التي قدمها إلى مجلس الأمن الدولي وزير الخارجية الأميركية الأسبق الجنرال كولن باول. ولكن بعد سقوط نظام صدام واحتلال العراق، اضطرت أجهزة الاستخبارات ذاتها، ثم المراجع الرسمية في واشنطن ولندن، للاعتراف بأن النظام العراقي لم يكن يملك أسلحة دمار شامل، وأنه لم يكن على علاقة بتنظيم "القاعدة"، بل كان خصماً له. وقد اعترف بهذا الأميركيون وأعلنوا اعترافاتهم رسمياً. ولذلك لم يكن باستطاعة بلير أمام لجنة التحقيق البريطانية أن يجدّد الاختباء وراء تلك المعلومات "المفبركة"، فاضطر إلى الإعلان: "إننا أردنا التعامل مع أسلحة الدمار الشامل، واتخذنا قرارنا على أنه لو تطلب الأمر تغيير النظام فلا بأس في ذلك". ومن هنا كان السؤال حول الشرعية التي استندت إليها الولايات المتحدة وبريطانيا لتغيير النظام في دولة ثالثة عضو في الأمم المتحدة، لم تعتدِ على أي منهما. هنا حاول بلير عبثاً إقناع لجنة التحقيق بأن قراره بالمشاركة في الغزو يستند إلى تفسير القرار 1441 الصادر عن مجلس الأمن الدولي الذي -كما أكد مراراً خلال استجوابه- يعطي صدام "الفرصة الأخيرة" للإذعان لشروط الأمم المتحدة. وكان تقدير بلير أن عدم إذعان صدام لتلك الشروط، ضيّع عليه تلك الفرصة، وأعطى بالتالي الولايات المتحدة وبريطانيا الشرعية للغزو! وطبعاً لا يبدو أن لجنة التحقيق اقتنعت بهذا التبرير، فالقرار لا يقول إنه إذا رفض العراق مطالب الأمم المتحدة يجوز للولايات المتحدة وبريطانيا القيام بعمل عسكري. وقد جادلته اللجنة طويلاً حول المنطق الذي اعتمده لغزو دولة أخرى من دون موافقة الأمم المتحدة، بل على رغم عدم موافقتها، حتى أن الأمين العام السابق كوفي عنان أعلن رسمياً فك أي ارتباط للمؤسسة الدولية بالعملية العسكرية. ومع ذلك اعترف بلير بعدم الإعداد بشكل كافٍ لمرحلة ما بعد الغزو. وبرّر الفوضى التي سادت العراق في ظل الاحتلال بوجود عاملين لم يكونا في الحسبان. العامل الأول هو انتقال عناصر من تنظيم "القاعدة" إلى العراق. ويبدو أنه كان يعتقد أن "القاعدة" شأن أفغاني، وأنها محصورة في أفغانستان حيث سبق للقوات الأميركية أن اجتاحتها. غير أن بروز "القاعدة" في العراق والعمليات الإرهابية التي قامت بها على خلفية معاداة الاحتلال شكلت صدمة سياسية وعسكرية في الوقت ذاته. أما العامل الثاني فهو الانهيار التام في أجهزة الدولة الإدارية والتنظيمية. وهنا أيضاً يبدو أن بلير اعتقد أن إقصاء رؤساء الأجهزة كان كافياً للتغيير على أساس تعيين رؤساء تابعين للاحتلال. ولكن القاعدة الإدارية تمردت على هؤلاء المعينين، فتعطلت الإدارة مما أدى إلى انهيارها التام. وهو أمر لم يكن في حسبان قوات الاحتلال. وعلى رغم النتائج المأساوية المروعة التي أسفرت عنها عملية الغزو فإن بلير في محاولة منه لإبعاد تهمة الكذب على الشعب البريطاني، قال إنه اليوم لا يزال على استعداد لاتخاذ قرار الغزو مرة ثانية في ظل الظروف التي أملت عليه اتخاذ قراره السابق. وليس من المعروف الآن ما إذا كانت اللجنة الخماسية اقتنعت بأن بلير كذب -أو لم يكذب- على الشعب البريطاني. أو أنه اتخذ قراره بالمشاركة في عملية الغزو على رغم اقتناعه -أو عدم اقتناعه- بالتقارير القانونية الرسمية التي أكدت تناقض الغزو مع الشرعية الدولية. فالبيان الختامي المتوقع صدوره عن اللجنة في وقت لاحق من هذا العام سيجيب على هذه التساؤلات الجوهرية والمبدئية المهمة. أما البعد السياسي للاستجواب فإنه يبرز من خلال إعلان بلير أن عملية الغزو وما رافقها من ملابسات متوقعة ومفاجئة تملي ثلاثة دروس أساسية: الدرس الأول: أن غزو (وقد سماه دخول) دولة فاشلة يحتم توقع الأسوأ. والدرس الثاني: أن الدخول (الغزو) يجب أن يحمل معه مشروعاً لبناء الدولة. والدرس الثالث: أن القوات المتدخلة (الغازية) يجب أن تكون مستعدة ومؤهلة لمحاربة الإرهاب. ويضع بلير هذه الاستخلاصات لتكون في خدمة أي عملية جديدة تستهدف أية دولة من الدول المتداعية في العالم الإسلامي خاصة، وفي العالم الثالث عامة. وثمة أمر أساسي بنى عليه بلير كل أطروحته الدفاعية هو أن "حسابات المخاطر قد تغيرت جذرياً بعد سبتمبر 2001". ومن الواضح أن الحسابات الجديدة التي أملتها تلك الأحداث الدموية المروعة فرضت معطيات جديدة في عملية اتخاذ القرار السياسي الأميركي، وتالياً البريطاني. ولقد برز ذلك على مستوى شنّ الحرب على العراق وأفغانستان، كما برز على مستوى الانقسامات السياسية التي عصفت بالعلاقات الأميركية- البريطانية مع المجموعة الأوروبية بقيادة فرنسا من جهة، ومع المجموعة العربية والإسلامية من جهة ثانية. وبرز كذلك حتى على مستوى إعادة النظر في أنظمة وقوانين الحريات الشخصية على قاعدة الأمن أولاً، التي اعتمدتها الولايات المتحدة وبريطانيا أساساً. ومن هنا تشكل أعمال لجنة التحقيق البريطانية في ملابسات المشاركة البريطانية في الحرب على العراق قاعدة جوهرية من قواعد الممارسة الديمقراطية في النقد الذاتي بهدف تجنيب الأجيال المقبلة أخطاء الجيل الحالي.. فماذا تعلّم العرب عامة والعراقيون خاصة من جلسات الاستجواب التي أجرتها وتجريها اللجنة؟