هذا الكتاب "قديسة الأسواق" الذي نعرضه هنا، عبارة عن سيرة حياة المفكرة الأميركية أيان راند واستقصاء لتطور فلسفتها الموضوعية من قبل المؤرخة جنيفر بيرنز. وتتضمن هذه السيرة تتبعا لمراحل التطور الفكري لراند وعلاقاتها بحركات اليمين الأميركي وقوة تأثيرها عليه. وقد أمضت المؤلفة ثماني سنوات من العمل المتصل على هذه السيرة التي كانت قد بدأتها بتقديمها موضوعاً لأطروحة الدكتوراه في جامعة كاليفورنيا. ويعد كتابا راند الأساسيين والأكثر شهرة على الإطلاق "المنبع" و"ازدراء الأطلس" بما تركاه من تأثير عميق على الحركة اليمينية الأميركية من تمجيد لقيم الفردية والأنانية. وقد فلسفت راند كثيراً لهذه القيم خلال نشاطها الفكري الذي غطى الجزء الأعظم من القرن العشرين، حتى رحيلها في ثمانينيات القرن الماضي. وتتحدث راند عن تلك القيم واصفة إياها بـ"فضائل الأنانية والفردية". كما عرفت راند بأنها صنعت لها عالماً خيالياً خاصاً بها، مؤلفاً من أمكنة وشخوص وأحداث لا علاقة لها جميعاً بأرض الواقع -شكلاً من أشكال اليوتوبيا الخيالية الحالمة- نذرت حياتها كلها للعيش فيه افتراضاً. غير أن الحصيلة النهائية لتلك الحياة الخاصة المتوهمة جاءت مأساوية وعلى أشد ما يكون التناقض الفكري والشخصي الذي ترك بصماته في كل لمحة من لمحات حياتها الشخصية والفكرية. فرغم إعلائها للعقل على كل ما سواه، عرف عن راند غرقها في العاطفية حتى الأذنين. وكانت تزعم لنفسها تحرراً كاملاً من قيود أي أحد كان، غير أنها لم تكف عن التأذي من الانتقادات الموجهة إليها حتى آخر ساعة في حياتها. وتشمل هذه التناقضات العاصفة كونها من أشد المنادين بحرية الأسواق، بدليل أنها وصفت هنا في هذه السيرة بكونها قديسة الأسواق، لكن المعروف عنها أنها لم تستثمر يوماً في أي من البورصات. وعلى الصعيد الشخصي كانت راند تعلي كثيراً من شأن من تصفهم بالمفكرين المستقلين. لكنها كانت تطالب أصدقاءها والمتحلقين من حولها بإظهار الولاء المطلق لها. والذي يستنتج من كل هذه التناقضات على مستوى الفكر والسلوك الشخصي، هو أن راند نفسها لم يسعها أن تؤمن بما تقوله لنفسها وللآخرين! غير أن من رأي المؤرخة وكاتبة سيرتها "بيرنز" أنه فات أمر في غاية الأهمية على منتقدي نظرة راند الأحادية التي تقسم العالم كله إلى عباقرة رأسماليين ولصوص مشاعيين، إضافة إلى ما فات عليهم من وراء الأحادية البادية على شخصيتها الخيالية التي رسمتها لنفسها من خلال فكرها الفلسفي وجهدها النظري الذي كرس كله للدفاع عن حرية الأسواق. يتلخص ذلك الأمر الغائب على النقاد في التأثير السياسي الخفي والعميق على حركة اليمين الأميركي، خاصة على تيار المحافظين الجدد الذي صعد إلى مراكز القيادة والسلطة في عهد إدارة بوش السابقة. ومما ورد من أوصاف الكاتبة أن راند كانت أشبه بحارس البوابة الفكرية الرئيسي لهذه الحركة. ومن فرط ما فتن بكتاباتها ومحاضراتها ممثلو هذا التيار، كادوا يتحولون إلى مدمنين لكل حرف وكلمة تنطق بها راند. ولعل هذا ما أوحى لكاتبة السيرة بصفة "القديسة" الواردة في عنوان الكتاب. ولم تكن بيرنز هي أول من بادر إلى كتابة سيرة القديسة الرأسمالية، بل سبقها المؤرخ جون هيلر الذي سرد أدق تفاصيل الحياة العامة والخاصة لراند. ومما اهتم به هيلر صالونات ليالي السبت الفكرية الأدبية التي كانت تعقدها راند في منزلها بمدينة نيويورك. وكان يتحلق حولها عدد من الشخصيات الجمهورية المحافظة التي تولت فيما بعد مناصب قيادية في مختلف الهيئات والمؤسسات المالية، من بينها ألان جرينسبان الذي كان شاباً حينئذ، وكانت تلقبه راند سراً بـ"المتعهد". وكانت تلك الجلسات تعرض لفلسفة راند التي أطلق عليها فيما بعد اسم الفلسفة الوضعية، حيث كانت تصدر أحكامها وآراءها حول الحركة السياسية المنادية بنمط الحياة "الجماعي" وأبعادها الاقتصادية ذات التوجه اليساري الاشتراكي. وكان من أهم شروط الانضمام إلى تلك الجلسات، قبول الحاضرين المطلق لكل فكرة تنادي بها راند، بما في ذلك موافقتهم على ذوقها الخاص في مسائل خصوصية مثل التذوق الفني والأزياء وغيرها. وهنا يكمن جنون العظمة الذي كانت تعانيه راند، وما تعرضت له لاحقاً من مضاعفات نفسية، ساهمت فيها أزمات حياتها الخاصة. فالآخرون من حولها لم يكونوا سوى مرايا تنعكس عليهم فيزيائياً صورة راند وفكرها ومذاقها الخاص في كل شيء. عبدالجبار عبدالله الكتاب: قديسة الأسواق: أيان راند واليمين الأميركي المؤلفة: جنيفر بيرنز الناشر: مطبعة جامعة أوكسفورد تاريخ النشر: 2009