من السهل في عصر نجاح زراعة القلوب، وولادة أطفال الأنابيب، واستمرار اختراقات أبحاث الخلايا الجذعية، أن ننسى، وأن تسقط من قائمة أولوياتنا، أمراض بدائية تاريخية، لا تتمتع بنفس القدر من الإثارة، إن صح التعبير. وأحد هذه الأمراض، هو مرض الجذام، الذي يعتقد الكثيرون -بما في ذلك جزء لا يستهان به من أفراد المجتمع الطبي- أنه قد انتهى، وأن الجنس البشري قد نجح في إضافته إلى قائمة الأمراض المنقرضة، وإن كانت الحقيقة هي عكس ذلك، حيث تظهر الإحصائيات والدراسات، إصابة أكثر من 640 ألف شخص بهذا المرض عام 1999، وهو العدد الذي ارتفع إلى 750 ألفاً بحلول عام 2000. وتقدر منظمة الصحة العالمية أن ما بين مليونين إلى ثلاثة ملايين شخص، يعانون حالياً من الإعاقة الدائمة بسبب إصابتهم السابقة بمرض الجذام، على رغم أن خمسة عشر مليوناً آخرين قد خضعوا للعلاج بنجاح خلال العشرين عاماً الماضية، وهو العدد الذي كان يمكن أن يضاف إلى أعداد المعاقين بسبب الجذام، لولا نجاح البرامج العلاجية التي نفذت خلال تلك الفترة. والجذام مرض قديم قدم التاريخ نفسه حيث كان متواجداً في الحضارات القديمة، في الصين، ومصر، والهند، منذ آلاف السنين. ويعود أول سجل مكتوب عن المرض إلى عام 600 قبل الميلاد، وإن كان الطبيب المسلم ابن سينا هو أول من كتب عن المرض -خارج الصين- حين وصف التشوّه الذي يصيب الحاجز الأنفي بين المصابين. وسواء قبل التعرف على طبيعة المرض، أو بعد إدراك ماهيته، فلطالما تعرض مرضى الجذام عبر التاريخ للرفض والعزلة والطرد، سواء من مجتمعاتهم أو حتى من عائلاتهم. ويعتبر عقد الأربعينيات هو العقد الأول الذي نجح فيه الجنس البشري لأول مرة في تحقيق اختراق في علاج مرض لازم أفراده لآلاف السنين مع اكتشاف فعالية عقار "دابسون" في وقف تقدم المرض، وإن كانت تعيب هذا العقار الحاجة للعلاج لسنوات طويلة، وربما لبقية سنوات العمر، وهو ما يجعل من الصعب على المرضى الالتزام به دائماً. وحتى هذا العقار، الوحيد حينها، اصطدم في عقد الستينيات بظهور مقاومة من ميكروب الجذام، وإن كان نفس العقد ولحسن الحظ قد شهد اكتشاف عقاقير أخرى (الريفامبيسين والكلوفازيمين)، اللذين يشكلان الأعمدة الأساسية حالياً في استراتيجية العلاج المعروفة بالعلاج متعدد العقاقير. ففي عام 1981 أوصت مجموعة الخبراء التابعة لمنظمة الصحة العالمية باتباع نظام علاج يعتمد على ثلاثة عقاقير، مكون من العقارين السابقين، بالإضافة إلى عقار "الدابسون" الأولي. وبالفعل، ومنذ عام 1995، عملت منظمة الصحة العالمية على توفير هذه العقاقير بالمجان، من خلال دعم مؤسسة "نيبون" اليابانية الخيرية، ومنذ عام 2000 من خلال تبرعات شركة "نوفارتيس" عملاق صناعة الأدوية، ومؤسسة "نوفارتيس" للتنمية المستدامة. والجذام هو مرض بكتيري معدٍ، وإن كانت العدوى به تتطلب التعامل والتواصل مع الشخص المصاب لفترات طويلة جداً. وحتى بين من يتعرضون للميكروب لفترات طويلة نجد أن خمسة في المئة فقط من أفراد الجنس البشري معرضون للعدوى. وهذه المناعة الطبيعية تعود في الغالب لأسباب وراثية، حيث يعتقد العلماء أن الجسم البشري يتمتع بمناعة طبيعية تلقائية ضد الميكروب، وأن من يصابون به يتميزون بتركيبة وراثية خاصة تجعلهم عرضة للعدوى. وربما أيضاً حتى بين أصحاب التركيبة الوراثية الخاصة، لا تحدث العدوى إلا في حالات سوء التغذية الشديدة، المصاحب بالتعرض للميكروب لفترات طويلة جداً. وهذه الأسباب ربما كانت هي التفسير الوحيد خلف العدد المنخفض نسبياً من حالات العدوى السنوية لميكروب الجذام، مقارنة مثلا بميكروب السل الذي يصيب عشرات بل مئات الملايين سنوياً. ومن المؤسف أنه على رغم فعالية العلاج، وفعالية الاستراتيجية المعتمدة على جرعة واحدة في تحقيق الوقاية للأشخاص الذين هم على اتصال مباشر ودائم بالمرضى، إلا أنه لا زالت هناك العديد من العقبات التي تمنع القضاء التام على المرض. ومن هذه العقبات نذكر ضرورة تحسين ورفع مستوى إجراءات التشخيص المبكر، وتثقيف المرضى وبقية أفراد المجتمع بسبب المرض وطبيعته، مع مكافحة التمييز السلبي الذي طالما عانى منه مرض الجذام منذ بداية التاريخ. حيث كان يعتقد أن العدوى بالمرض يمكن أن تحدث، إذا ما نظر شخص مجذوم إلى شخص سليم، أو إذا ما وقف شخص مجذوم في مهب الريح المتجهة نحو أشخاص أصحاء. وهذه المخاوف والخرافات أدت إلى سياسة عزل المصابين بهذا المرض عن مجتمعاتهم رغماً عنهم، وقصر إقامتهم على ما يعرف بمستعمرات الجذام. تلك المستعمرات التي كانت تبنى غالباً على جزر معزولة، كانت تهدف إلى وضع المجذومين تحت الحجر الصحي إلى نهاية حياتهم. ومثل تلك المعتقدات الخاطئة لا زالت موجودة حتى الآن، ففي الهند مثلا يقدر أن هنالك ألف مستعمرة للمجذومين حالياً، يعيش فيها هؤلاء في ظل ظروف صعبة جداً، تقل فيها المؤن، وتشح فيها الموارد، وينعدم فيها المأوى والملبس أحياناً. ولذا، وعلى رغم أن الجذام موجود منذ آلاف السنين، ومع أن سبل العلاج والوقاية الفعالة ضده متوفرة منذ عقود، إلا أن وقوع مئات الآلاف من حالات العدوى سنوياً، واستمرار البعض في الاعتماد على مستعمرات الجذام لمكافحة انتشار المرض، يظهر بشكل جلي أن قصة الجذام مع الجنس البشري، هي قصة لم نصل بعد إلى آخر فصولها. د. أكمل عبدالحكيم