رغم الصدمة التي أصابت الكثيرين - عرباً وأجانب - بسبب الحرب الكروية بين مصر والجزائر، إلا أن نتائجها - على عكس ما قيل حتى الآن - قد تكون إيجابية لعلاقات البلدين والعلاقات العربية ككل. ليس هناك أقرب إلى الرياضة من السياسة، فهما كالتوأمين اللذين يتنافسان دائماً وفي الأوقات الحرجة تحتل الرياضة مكان السياسة. منذ عصور التاريخ القديم، ارتبطت المنافسات الرياضية بالسياسة، أو ما أسماه علماء النفس بالإعلاء والتبديل، وهو باختصار شديد أن يعتلي الناس بغرائزهم القتالية، وبدلاً من أن يجدوا لها تعبيراً في ساحات الحرب يقومون باستخدامها في المواجهات الرياضية، على أساس أن المواجهات الرياضية مهما اشتدت تكون أقل دماراً وتخريباً لموارد المجتمع من مواجهة الجيوش بعضها لبعض، ونرى الخط الرفيع الفاصل بين المواجهات الرياضية ومساحات القتال في بعض الرياضيات العنيفة مثل الملاكمة والمصارعة على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي في مباراة الهوكي على الجليد في كندا، الولايات المتحدة أو الدول الاسكندنافية، ورغم وجود القواعد حتى لا يقتل اللاعبون بعضهم بعضا، فإن مستوى العنف والاقتتال المقبول لا يزال كبيراً. على العكس تماماً من مواجهات أخرى تبتعد ابتعاداً كبيراً عن العنف وتقترب من الرياضة بمعناها السامي في الاعلاء والتبديل، وأقرب الأمثلة على ذلك هي رياضة التنس، وكذلك تنس الطاولة أو "البنج بونج". وفي الواقع في الدبلوماسية المعاصرة لعبت "البنج بونج" دوراً أكبر من الإعلاء والتبديل المنوطين بالرياضة، حيث قامت بمهمة التواصل لإنهاء القطيعة بين الولايات المتحدة والصين في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات، حيث لا يزال الكثيرون يتذكرون أن الولايات المتحدة رفضت الاعتراف بالصين الشعبية عقب نجاح ثورة ماو تسي تونج الشيوعية في سنة 1949، وصممت أن تكون الصين ممثلة في قوات شاي كاشيك- التي التجأت إلى جزيرة تايوان وأطلقت على نفسها الصين الوطنية، واحتفظت هذه الجزيرة الصغيرة بمقعد الصين الدائم في مجلس الأمن. وكانت من مهازل الدبلوماسية الدولية في ذلك الوقت أن تستبعد الأمم المتحدة من عضويتها أكبر دول العالم قاطبة، أي الصين الشعبية وذلك بضغط من الولايات المتحدة، ولكن كان على هذه المهزلة أن تنتهي، وبدأت إذابة الجليد بين الدولتين عن طريق مباريات في تنس الطاولة بين لاعبيهما، وسميت آنذاك هذه المباريات بدبلوماسية البنج بونج، ثم توالى واشتد ذوبان الجليد، حتى ذهب كل من الرئيس الأميركي نيكسون ووزير خارجيته كيسنجر في زيارة سرية إلى بكين ومحادثات مع الرئيس ماو تسي تونج، ثم دخول الصين الشعبية إلى الأمم المتحدة لتحتل مقعدها الدائم في مجلس الأمن. اختلفت بالطبع مكانة الرياضة في العلاقات بين مصر والجزائر، وتعتقد الغالبية الكبرى أن مباريات الكرة في القاهرة وأم درمان على كأس العالم ثم أخيراً في أنجولا على كأس الأمم الأفريقية، لم تكن بالمرة علاقة تواصل بل مظهراً من مظاهر التوتر والجفاء بين الدولتين والشعبين. فعلى عكس العلاقات الصينية - الأميركية التي تميزت بالقطيعة، كان الكثيرون ينظرون إلى العلاقات المصرية - الجزائرية كعلاقة إخاء بين الأشقاء في داخل ما يُعرف بالأسرة العربية، ومن المدهش ليس اكتشاف هذا الجفاء المكبوت، والذي ظهر على السطح، ولكن عنفوان هذا التوتر. وقد أفاض الكثيرون من رسميين وإعلاميين في الحديث عنه، بل شعرت الغالبية بالخجل من أن تصل المواجهة الكروية إلى هذه الدرجة من القتالية، وأرجعها البعض إلى استغلال أجهزة الإعلام في الدولتين الموقف للإثارة، عن سوء نية أو جهل وأرجعها البعض الآخر إلى نظامي حكم في الدولتين يحاولان بقدر الإمكان البحث عن علامة انتصار - ولو حتى في المجال الكروي - لتغطية مشاكل الفقر والبطالة التي تمثل تحدياً كبيراً أمام الشعبين. كل هذا صحيح، ولا داعي لفتح الجراح والتذكير بالكلمات الجارحة والأفعال المشينة التي تكررت من كل جانب إلى الآخر. ولكن في كل هذا هناك جانب إيجابي للمباريات المصرية - الجزائرية. كان التنافس والتوتر بين هاتين الدولتين الكبيرتين يزداد وبقوة في كل من المجال العربي والأفريقي، وحتى في ترشيح مواطنيهم في المنظمات الدولية. لم يكن هذا التنافس والتباعد والتوتر سراً، ولكن كان الجميع يقلل من شأنه ويحاول تجاهله، حتى أصبح مثل الجرح المكبوت، ثم جاءت مباريات الكرة لتفتحه وبقوة مع كل الآلام الذي يسببه الضغط على هذا الجرح لإخراج ما فيه. كانت المواجهة في أنجولا هي المواجهة الأخيرة، وكانت نتائجها أقل كثيراً مما حدث أثناء المواجهات الكروية في القاهرة أو أم درمان. بل أتوقع الآن - خاصة بعد فوز الفريق المصري بكأس أفريقيا للمرة السابعة - أن يشعر المصريون بأن مكانتهم الكروية مستقرة، ويبتعد عنهم الشعور بالتهديد من جراء خطف هذه المكانة من الجزائر أو من دولة أخرى. بل قد يشعر الكثير من المصريين أن الفريق الجزائري هو الفريق العربي الوحيد في مباريات كأس العالم، ولذلك وجب تأييده. وكل هذه عوامل ستسرع على أن يلتئم الجرح وتعود الأمور إلى طبيعتها الأولى، دون اقتتال حقيقي أو حرب وتدمير للمباني والبشر.