يبدو اليمن بالنسبة للمراقب من الخارج بأنها تعج بأحداث يصعب تفكيك تداخلها، بما يجعل من المستحيل تقريبا استبعاد مخاطرها على استقرار الدولة اليمنية ذاتها. ولعلنا نعرف الآن كيف أصبح مصطلح "الدولة الفاشلة" هو الشبح الذي يتهدد اليمن، ويتردد كثيرا في الإعلام الغربي خاصة. لكن في اليمن ذاته، وتحديدا في صنعاء، تبدو الأمور من زاوية مختلفة أكثر قابلية للإدارة والسيطرة. هناك المصطلح الأكثر تداولا هو مصطلح "الكروت"، أو الأوراق السياسية التي تعتبر العنوان الأهم لكل الأزمات التي تعتمل، ولا نقول تعصف، داخل اليمن، وعلى حدوده أيضا. لا تختلط الأمور كثيرا، لأنها أوضح مما تبدو عليه، أو هكذا هي قناعة الكثيرين هناك. والمقصود بلعبة "الكروت"؛ اللعبة القديمة ذاتها: أن يتعامل رئيس الدولة مع القوى السياسية الفاعلة، ومع الأحداث والتطورات على أنها أوراق سياسية يمكن أن يستخدم أي واحدة منها عند الحاجة في مواجهة الأخرى، أو حسب ما يقتضيه الظرف السياسي. بل يمكن للرئيس أن يمهد الطريق أمام من يملك مقومات أن يكون قوة سياسية فاعلة للغرض نفسه. الأزمات التي تنفجر من ذاتها، (وأحيانا التي يراد لها أن تنفجر) هي أيضا "كروت" يمكن توظيفها في لعبة التوازنات والمصالح ذاتها. نظرية الكروت هذه منتشرة في صنعاء على نطاق واسع. وهي الأكثر استخداما لتفسير الأحداث. وقد عايشت ذلك على مدى أسبوع كامل أمضيته في العاصمة اليمنية في ضيافة المركز اليمني للدراسات الاستراتيجية، بين 15 و22 يناير الماضي. وقد تسنى لي في هذه الزيارة، بفضل السماحة والضيافة اليمنية، أن ألتقي بعدد كبير من الساسة والمثقفين والأكاديميين، من المعارضة والموالاة: ابتداء من"أحزاب اللقاء المشترك" وانتهاء بـ"المؤتمر الشعبي العام". كلهم تقريباً متفقون على أهمية نظرية الكروت. وقد سمعت قصصا عن تطبيقات هذه النظرية يصعب تصديق بعضها. اللاعب الأول في لعبة الكروت، كما يقول اليمنيون من داخل المعارضة وخارجها، هو الرئيس صالح الذي يعتمد بشكل رئيسي على لعبة الكروت هذه. بل يؤكدون أنه أدمن عليها، ولا يستطيع ممارسة عمله السياسي من دونها. ليس في هذا تبسيط أو اختزال للعملية السياسية التي بطبيعتها مركبة، كما يقولون. لكن من أجل أن تتعامل مع هذه العملية، ولفهم تركيبتها، عليك أن تبدأ من نقطة ما في سياق اللعبة. وهذه النقطة في اليمن هي نقطة الكروت تحديداً. لماذا؟ الرئيس لا يمسك بكل خيوط اللعبة السياسية، لكنه يمسك بأغلبها وأكثرها نجاعة وفاعلية: السلطة التنفيذية بكل فروعها: مجلس الوزراء، والأجهزة الأمنية، والخزينة، ومؤسسات الإعلام الرسمية. لذلك من أجل أن تفهم اللعبة لابد أن تبدأ من الرئيس. ولأن الرئيس يعتمد، حسب المعادلة السائدة، على لعبة الكروت، لابد بالتالي أن تكون البداية من هناك أيضا. لكن السؤال: لماذا يحتاج الرئيس إلى هذه اللعبة؟ لحفظ التوازنات في الداخل، وجعلها تحت مظلة الحكم، ولإقناع الخارج بأنه العامل الرئيس للاستقرار، والرقم الصعب في معادلة التوازنات، ومن ثم لا مندوحة في هذه الحالة من أن يأتي الدعم المالي والسياسي لليمن من خلال مؤسسة الحكم. الغريب أن نتائج مؤتمر لندن الأخير إن لم تتفق مع هذه النظرية، فإنها لا تتناقض معها أيضا. حيث تم التعهد بتقديم الدعم المالي والسياسي والأمني. وفي مقابل ذلك تحركت الحكومة اليمنية، وبدت أكثر فاعلية ونشاطا، خاصة في مواجهة الحوثيين. وأكثر ما يلفت في هذا السياق إلقاء القبض على أهم تجار السلاح اليمنيين، فارس مناع، شقيق محافظ صعدة ميدان التمرد الحوثي، ورئيس إحدى لجان الوساطة مع المتمردين. يقول اليمنيون إن الرئيس يهدف من خلال لعبة الكروت ليس فقط إلى ربط استقرار اليمن بشخصه، بل لتهيئة الظروف المحلية والإقليمية لتسهيل انتقال الحكم إلى ابنه أحمد. كيف تختلف نظرية الكروت عن نظرية المؤامرة؟ الكروت هي اللعبة، أما المؤامرة فهي الأداة السياسية أو الأمنية التي قد تحتاجها عند أي منعطف تفرزه الأحداث. لو تساءلنا: كيف ظهرت قضية الحوثيين؟ لا تختلف إجابة قيادي في "المؤتمر الشعبي العام" (موالاة)، عن إجابة قيادي في "الحزب الاشتراكي" أو "التجمع للإصلاح" (معارضة)، إلا في التفاصيل ونقاط التركيز. كلهم يتفقون أن نقطة البداية كانت مع المد الإسلامي، بما فيه السلفي، الذي تعاظم منذ ثمانينيات القرن الماضي. هناك من يقول بأن الرئيس كان في حاجة للمد الإسلامي، بجناحيه الإخواني والسلفي، لمواجهة القوى اليسارية في اليمن الجنوبي حينها. مصدر كبير في "المؤتمر الشعبي" يركز بدلا من ذلك على توسع النشاط السلفي، وخاصة الوهابي. لكن النتيجة في كل الأحوال أن الزيدية، بما في ذلك الهاشميون، هم الطرف الذي خسر مما كان يحدث آنذاك. أين تقع لعبة الكروت في هذا؟ مصادر كثيرة، خاصة في المعارضة، تشير إلى أنه بعد الوحدة ضعف الحزب الاشتراكي، وتراجع اليسار. مما زاد من قوة وتأثير التيار الإسلامي على الساحة. هنا التقت المصلحة السياسية للرئيس مع أتباع المذهب الزيدي لوضع حد لقوة هذا التيار. البعض يقول بأن الهاشميين هم من بدأ بتحذير الرئيس من خطورة تنامي الإخوان والسلفيين. ومهما يكن، فإنه بعد الوحدة مباشرة ظهر منتدى "الشباب المؤمن"، التنظيم الذي ستخرج منه جماعة الحوثيين. يكشف هذا السرد، من ناحية أخرى، حدود اللعبة. فـ"كرت" الإخوان الذي كان مفيدا للرئيس كبر وشب عن طوق السيطرة. ومن بعده، وفي مواجهته، أفرز "الشباب المؤمن" التمرد الحوثي. لكن أصحاب نظرية الكروت يصرون على أن التمرد لا يزال كرتا سياسيا مفيدا للرئيس. هم يفترضون بأنه كان دائما في وسع الحكومة حسم الموقف مع الحوثيين مبكرا، لكنها دائما ما تتراجع عن ذلك. للتدليل على ذلك يذكرون قصص اللجان المتعددة التي لعبت أدوارا مختلفة للوساطة مع الحوثيين خلال فترات كثيرة طوال مدة الحرب. والمهم في كل ذلك هو الطريقة التي ينتهي بها عمل كل لجنة، كما يقول أصحاب النظرية. عام 2004 كانت إحدى هذه اللجان تستعد للقاء زعيم التمرد، حسين الحوثي (قبل مقتله) في منطقة وعرة في أحد الجبال. فجأة تعرضت المنطقة في اليوم التالي للقصف. لم يعد هناك للجنة ما تفعله بعد ذلك. لجنة وساطة أخرى في 2007 كانت أحد مهامها الاتفاق مع المتمردين على تسليم سلاحهم. لكن رئيس اللجنة فوجئ بعد وقت من المفاوضات بأن لدى الفريق الحوثي رسالة خطية من قصر الرئاسة تسمح لهم بالاحتفاظ بسلاحهم. عندما ذكرت غرائبية هذه وغيرها من الروايات لقيادي كبير في حزب "التجمع للإصلاح" قال: "معك حق. لو كنت مكانك لما صدقتها على الإطلاق." قلت: ولماذا تصدقها إذن؟ قال لأننا لا نسمع عن هذه القصص، وإنما نراها عيانا، ونعيشها. من ناحيته مصدر كبير في "المؤتمر" ومقرب من الرئيس لم ينف حكاية الكروت، بل يرى أنها كانت مفيدة للرئيس، لأنها سمحت له بالبقاء رئيسا أكثر من ثلاثين سنة حتى الآن.