أنهت اللجنة البريطانية للتحقيق في حيثيات قرار الحرب على العراق الجزء الأهم من أعمالها، من دون أن تقنع الجمهور الناقد والغاضب والمشكك بأنها طرحت الأسئلة اللازمة. هذه لجنة شكلت لإجراء تحقيق، لكنها أحيطت بكمٍّ كبير من القيود والموانع والحواجز، فانتهت إلى إجراء ما يشبه المقابلات المتلفزة مع "أبطال" المسلسل الذي أعيد تمثيله مراراً. إذا كان هذا التحقيق هو الثالث، لكن الأول لامس الموضوع ولم يتوغل فيه، وتقيّد الثاني بالرواية الرسمية البليرية، أما الأخير فكشف جوانب كثيرة مثيرة للاهتمام يمكن أن تفيد المؤرخين إلا أنها لن تجدي في تصويب عملية صنع قرار الحرب. وطالما أن توني بلير لم يعرف مسبقاً أن الأمر لا يتعلق بمحاكمته أو بمعاقبته فإنه لم يجد ضرورة لا للاعتذار ولا للندم ولا للاعتراف بأي خطأ بل أصرّ على أنه اتخذ القرار الصائب، بمعزل عن الطريقة التي اتبعها، وأنه لو عاد الأمر إليه لفعلها ثانية ليس ضد العراق فحسب. وعلى رغم كل ما حصل بعد الحرب، لم يرَ بلير ما يوجب نظرة ثانية مختلفة إلى قراره، فلا أعداد القتلى من البريطانيين، ولا المآسي المفزعة التي آل إليها الوضع العراقي، ولا الانعكاسات السيئة التي خلفتها الحرب إقليمياً ودولياً، كافية لأن تستفز شيئاً من التواضع لديه في دفاعه المستميت عن قرار الحرب. طُرحت عملياً على رئيس الوزراء السابق كل الأسئلة المتوقعة، وهو أعطى كل الإجابات المتوقعة. وباستثناء واحد أو اثنين من معاونيه السابقين، أظهر الآخرون كيف أنه لم يأخذ بتحذيراتهم ونصائحهم. وبالتالي فإننا أمام قرار اتخذه حاكم بمفرده، وبالتفاهم مع حاكم آخر هو الرئيس الأميركي السابق. ومع أن بعض أسئلة المحققين أشارت إلى أنه لم يقل الحقيقة لا لمجلس العموم ولا للرأي العام، بل استند إلى تلفيقات عرضها على أنها وقائع، أي أنه باللغة الواضحة "كذب". إلا أن بلير بدا كأنه يقول قد أكون كذبت لكنني عندما كذبت لم أكذب. ففي طيات التحقيق كان هناك الكثير من التحذلق واللعب بالكلمات. يعرف بلير جيداً أنه هذه المرة أيضاً، كما في المرات السابقة، سيبقى فوق المساءلة والمحاسبة، حتى لو بقي تحت الشبهات. فهناك فارق بين أحكام "النظام" وأحكام الرأي العام. "النظام" لا قلب له ولا مشاعر وفي أحيان كثيرة يستطيع أن يكون بلا ضمير. و"النظام" يحميه بل ربما يثني عليه لأنه وفق العقيدة السياسية المتوارثة أثبت أنه لا يخشى أن يكون محارباً بالمفهوم الإمبراطوري الاستعماري القديم. وإذا لم يكن هذا سبباً كافياً لحمايته، فإن السبب الآخر الذي بات من ثوابت السياسة البريطانية هو عدم التخلف عن أي حرب تذهب إليها أميركا، خصوصاً في الشرق الأوسط، وبغضّ النظر عن الذرائع والدوافع. ولو كان لـ"النظام" البريطاني أن يؤاخذ بلير لما آخذه على الذهاب إلى الحرب وإنما لكان لامه على إساءة إدارة حرب لم تضف شيئاً إلى "أمجاد" بريطانيا. ولهذا بدا التحقيق الحالي وسيبدو أكثر أنه كافٍ لإنذار أي حاكم مقبل وإلزامه بتصحيح الأخطاء الإجرائية لا بالإحجام عن الذهاب إلى الحرب. وفي أي حال يتأكد مع هذا التحقيق أن العالم الغربي يريد أن يعتبر الأقطاب النازيين كآخر مجرمي حرب غربيين تمكن محاكمتهم ومعاقبتهم، أما المحاكم الحديثة ففصلت على مقاس حكام العالم الثالث لأنهم يديرون دولهم بأساليب غير ديمقراطية. لكن ما تكشف عن أسرار الحرب على العراق، وخوضها رغماً عن إرادة المجتمع الدولي، لم يظهر الديمقراطية الأميركية أو البريطانية في أفضل حالاتها. لكن الفارق أنه، على رغم كل شيء، لم يستطع "النظام" البريطاني تفادي إجراء تحقيق. وهذا التحقيق فضح عيوب قرار الحرب، واستدعى رئيس الوزراء وكبار المسؤولين وصغارهم. ولو كان صدام حسين حياً لكان استهزأ واعتبر أن ثمة عيباً في هذا "النظام"، بل لكان استضعفه. والأكيد أن إسرائيل تستخف بهذا التحقيق ولا ترى موجباً له بعدما أصبحت رائدة نمط الحروب الوحشية في عالم اليوم. ولاشك أن لوم بلير على تبعيته العمياء والمطلقة لجورج بوش يشير إلى أحد عيوبه الشنيعة، لكن مثل هذه العيوب بات في العالم العربي وغيره من البديهيات الراسخة.