"دينس ليندزاي"مازال يتذكر ذلك اليوم قبل أربعة عقود عندما بدأ والده، المزارع من ولاية أيوا، يستخدم مخصبات النيتروجين في أرض العائلة الممتدة على مساحة 160 هكتارا، وباستخدام النيتروجين ارتفع محصول الأرض وتحسنت الزراعة بشكل لافت، كما أن مواسم الحصاد باتت أكثر بهجة بفضل وفرة المحصول. وعندما كان النيتروجين يخلط بالعلف ويقدم إلى الحيوانات كانت تنتج كميات أكبر من اللحم ويتحسن إنتاجها من الحليب، وهو ما أدى في النهاية إلى توسع النشاط الزراعي، وتمكنت العائلة من شراء المزيد من الأبقار والماشية، وتعظيم أرباحها من زراعة الذرة وغيرها من المحاصيل. واليوم وبعد مرور عدة سنوات مازال المزارع الأميركي ليندزي وابنه يعتمدان على النيتروجين في زراعة حبوب الصويا، حيث يستخدم حوالي 150 طنا من مخصبات النيتروجين في السنة، ولم يقتصر الأمر على الولايات المتحدة، بل انتقل إلى بلدان أخرى مثل الصين ودول أوروبا وجنوب أميركا لتوفير احتياجاتها الغذائية ولإطعام أعدادها الكبيرة من السكان. لكن ورغم المنافع الكثير للنيتروجين في تخصيب الأرض وتعزيز الإنتاج الزراعي، وبالتالي سد احتياجات السكان المتصاعدة من الغذاء، يبدو أن الإكثار من استخدامه قد يلحق ضرراً كبيراً بالبيئة، ويأتي بنتائج عكسية، لا سيما بعد الدراسات التي تشير إلى الكميات الهائلة من النيتروجين الصناعي سواء في الجو، أو في المياه. ففي الوقت الذي يساهم فيه النيتروجين في تحسين الإنتاج الزراعي تتسرب كميات كبيرة منه إلى الأنهار والبرك المائية والبحار متسببة في تكاثر الطحالب على نحو مفرط مهدداً التوازن البيئي في البحار. وبالإضافة إلى ذلك يتراكم النيتروجين الذي تبعثه في الهواء محطات إنتاج الطاقة في الأجواء لتسقط لاحقاً في شكل مطر حمضي، ناهيك عن الضر الذي يلحقه بغشاء الأوزون، والسبب هو غاز النيتروز الذي ينحبس في الهواء وينتجه النيتروجين، هذا الغاز الذي يُعتبر حسب الخبراء 300 مرة أقوى من أكسيد الكربون، وهو أيضاً من الأسباب الأساسية وراء التغير المناخي، كما أنه ثالث أكثر الغازات المسببة للاحتباس الحراري خطورة. وعن هذا الموضوع يقول "جيمس جلاواي"، أستاذ العلوم البيئية بجامعة فيرجينيا: "لا شك في أن النيتروجين يلعب دوراً كبيراً في إطعام شعوب العالم، وهو أمر مفيد وإيجابي بالنسبة للبشرية، لكن المشكلة في كيفية تعظيم مكاسبه والتقليل من جوانبه السلبية، لاسيما ما يتسرب منه إلى الطبيعة". والحقيقة أن أفريقيا هي من تلك الأماكن التي يكتسي فيها استخدام النيتروجين في الزراعة أهمية قصوى لإطعام الجياع وتوفير الغذاء بكميات كبيرة من خلال تعزيز قدرة الأراضي الزراعية على الإنتاج وتحسين جودة المحصول، لكن في الولايات المتحدة يتسرب أكثر من 40 في المئة من النيتروجين المستخدم في الحقول إلى الأنهار والمحيطات ليتسبب في قتل بعض الحيوانات البحرية والأسماك، ودفعها بعيداً عن المناطق الساحلية التي تتكاثر فيها الطحالب، وباتت تعرف بالمناطق الميتة المنتشرة في العديد من القارات. وبالنسبة للصين فإن الوضع أكثر سوءاً بسبب الاستخدام المكثف للنيتروجين بوتيرة تفوق ما هو مستخدم في أميركا، ويؤكد "فاكلاف سميل"، الخبير في النيتروجين بجامعة مانيتوبا بالولايات المتحدة أن ما يتسرب من الغاز أثناء استخدامه في حقول الأرز الصينية يصل إلى ثلاثة أرباع نسبة الكمية المستخدمة لتضاف إلى وسائل التسرب الأخرى المعروفة، كتلك التي تنفثها محطات إنتاج الطاقة، وعمليات تعليف البهائم؛ ومع تصاعد احتياجات الطاقة تزايد انبعاث أكسيد النيتروجين في الهواء سواء على شكل دخان، أو أمطار حمضية، أو ظاهرة الاحتباس الحراري التي تبقي كميات كبيرة منه في الجو. ومع أن النيتروجين لا يبقى لمدة طويلة في الجو ويتحلل بسرعة، إلا أن اختلاطه مع مواد أخرى يحوله إلى غاز سام يتسرب إلى التربة والمياه، وهو ما رصده الباحثون الأميركيون عندما اكتشفوا كميات مرتفعة من النيتروجين في جبال الروكي، والمحميات الطبيعية، لكن المشكلة حسب العديد من الخبراء ومن بينهم "ليستر براون"، رئيس معهد سياسة الأرض بواشنطن تتمثل في نسبة تركز النيتروجين في النظام البيئي المحيط بنا "فكلما زاد استخدام النيتروجين في الزراعة، ومن خلال باقي عمليات الاحتراق الأخرى مثل السيارات ومحطات إنتاج الطاقة تصاعدت كميات النيتروجين في النظام البيئي، ومن خلال تكثيف تواجد المغذيات، أو المخصبات التي يراد بها تحسين الإنتاج الزراعي يتغير النظام البيئي"، وهو ما يفسر حسب بعض الباحثين ظهور أعشاب تقتات عادة على كميات النيتروجين المتواجدة بكثرة في التربة وتؤدي إلى انتعاشها في بعض المناطق مثل صحاري "موجافي"، و"سونران" بأميركا، بالإضافة إلى تهديد أنواع أخرى من النباتات، التي لا تحتاج إلى نفس الكمية من النيتروجين. ويبقى التأثير الأسوأ هو ما تشهده مناطق بحرية من غزو غير مسبوق للطحالب، التي تنتعش بفضل تسرب المخصبات الغنية بالنيتروجين إلى مياه البحار، مما أدى إلى هروب الحيوانات البحرية مثلما حصل في خليج المكسيك، حيث انقرضت بعض أنواع الأسماك كلياً من محيط يبلغ ثمانية آلاف ميل مربع، كما تنتشر حول العالم 400 منطقة بحرية ميتة تقدر مساحتها بحوالي 245 ألف كلم تم اكتشافها في العام الماضي. مارك كلايتون ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريسيتان ساينس مونيتور"