وقف توني بلير، رئيس الوزراء البريطاني السابق، يدلي بشهادته أمام "لجنة شيلكوت" للتحقيق في الحرب وظروفها، في أول تحقيق رسمي في شأن سبب مشاركته في الحرب على العراق. وقدم الرجل شهادة تثير الرثاء والخوف معاً. أما الرثاء فلأنها جاءت دون المستوى بكثير بالنسبة لرجل كان يشغل موقع المسؤولية الأولى عن صنع القرار في دولة كبرى، كانت عظمى في يوم من الأيام. وأما الخوف فهو خاص بالمستقبل لأنه بدا عاجزاً عن أن يتعلم شيئاً من الخبرة الأليمة لما جرى في العراق فيحرض على حرب جديدة في المنطقة. انطوت شهادة بلير على تناقضات تفقد الشهادة صدقيتها، ولولا أنها علنية لتشكك المرء في صدورها عن شخص بوزنه في السياسة البريطانية. ويتلخص تبرير قرار الحرب لدى بلير وفقاً لشهادته بأنهم كانوا -أي هو والأميركيون- يعتقدون قبل 11 سبتمبر 2001 أن الرئيس العراقي السابق يمثل خطراً، لكنهم اعتقدوا أن محاولة احتوائه أفضل، غير أن هجمات سبتمبر أظهرت أنه يتحتم نزع سلاح صدام حسين أو إطاحته، فلو "كانوا قادرين على قتل عدد من الناس أكبر من أولئك الثلاثة آلاف لفعلوا، ولذلك وبعد هذا الوقت كانت وجهة نظري هي أنه لا يمكن المخاطرة في تلك القضية على الإطلاق". ثم يناقض الرجل نفسه بخصوص "نزع سلاح صدام حسين" فيقول: "هل يمكن أن نتحمل مخاطر قيام هذا الرجل بإعادة بناء برنامجه للأسلحة؟ إذا كان ذلك يعني تغيير النظام فليكن". أي أن النظام السياسي في أي دولة معرض بموجب هذا المنطق للإطاحة لمجرد الشكوك في إعادة بناء برنامج للأسلحة، علماً بأن هناك دولاً تملك بالفعل هذه الأسلحة بمباركة بلير كإسرائيل، أو برضاه كالهند وباكستان، أو بغير رضاه ككوريا الشمالية، وفي كل هذه الحالات لم تطرح فكرة الاحتواء أو الإطاحة. ولأن القوات الغازية للعراق في 2003 لم تعثر على دليل واحد على وجود أي سلاح من أسلحة الدمار الشامل، ناهيك عن ترسانة متكاملة، فإن الأمر يحتاج تكييفاً من بلير، الذي يقول: "لم يكن ممكناً وصف طبيعة التهديد بالطريقة نفسها لو كنا نعلم وقتها ما نعلمه الآن" (وهو عدم العثور على أسلحة دمار شامل في العراق)، وعندما سئل عما إذا كان سيقحم بلاده في الحرب لو كان يعلم هذه الحقيقة حينذاك أجاب بقوله: "كنت سأستمر في الاعتقاد بأن الإطاحة (أي بصدام حسين) أمر صحيح. من الواضح أننا كنا سنستخدم ونطور حججاً مختلفة في شأن طبيعة التهديد". أي أن قرار الحرب لا شأن له البتة بالمعلومات. وعلى رغم كل الخبرة الأليمة لما وقع في العراق بعد الغزو، ومن عدم الاستقرار الإقليمي الذي سببه هذا الغزو، فإن بلير بدا في شهادته وكأنه فاقد القدرة على تعلم الدروس، فهو يحرض على حرب إقليمية ثانية ستكون دون شك أشد وبالاً على المنطقة وعلى المبادرين بها إن وقعت. داعياً إلى ضرورة تدخل عسكري مبرراً ذلك بضرورة عدم ترك أي مجال للمجازفة. ونعلم جميعاً أن عديداً من الدول العربية أثبتت أنها أكثر رشادة بكثير من رئيس وزراء سابق لدولة كبرى، فقد عارضت هذه الدول بصدق وقوة فكرة شن حرب جديدة، لأنها تعلم أن حرباً كهذه ستكون أقصر الطرق لعدم استقرار مخيف في المنطقة قد يفضي بها إلى تفكك مجتمعاتها إن لم يكن تمزيق دولها. عندما كنت أدرس لطلابي من دارسي العلوم السياسية بالجامعة نموذج صنع القرار كان المرء يتوارى خجلاً من السمات التي يتسم بها هذا النموذج في بعض بلادنا بدءًا بفرديته وانتهاءً بعشوائيته ومروراً بفقدانه في حالات عديدة لصفة الرشادة، وكان التصور أن دولاً ديمقراطية كالولايات المتحدة وبريطانيا قادرة على أن تصنع قرارات تتسم بتلك الصفة، فهي تبنى على أدق المعلومات الممكنة، ويتحدد هدفها بعد ذلك، ثم تجرى عملية تصحيح لها بعد أن تخرج إلى حيز الواقع وتظهر عيوب التطبيق، أو ربما عيوب القرار المتخذ ذاته. ولكنني الآن أكثر تأكداً من زيف اعتقادي السابق. فقد بدأت الأمور باتخاذ قرار غزو العراق استناداً إلى معلومات مغلوطة، أو -وهذا هو الأخطر- معلومات مُصَنَّعة خصيصاً لغاية التوصل إلى هذا القرار، وهكذا تحدد الهدف أولاً وهو غزو دولة وإسقاط نظام حكمها. ثم بدأ بعد ذلك البحث عن المعلومات التي تبرر هذا الهدف، أو "تخليقها". وعلى رغم كل المآسي التي ألمت بالعراق منذ الغزو الأميركي وحتى الآن فإن عملية واحدة لمراجعة ما تم وتصحيحه لم تجر في البلدين الرئيسيين في هذا الغزو، أي الولايات المتحدة وبريطانيا، بحيث إنه لو تمت هذه العملية لأمكن تصحيح السياسة المتبعة في العراق في وقت مبكر، ولكن التصحيح احتاج تغيراً رئاسياً في الولايات المتحدة، وعندما جاء الرئيس الجديد برؤية تتمثل في أن الحرب ضد العراق لم تكن ضرورية سرعان ما وجد نفسه مكبلاً بالقيود التي فرضها عليه صقور الحزب "الجمهوري"، وكذلك قيود الواقع الذي خلفه الاحتلال، فبدا -أي الرئيس الأميركي- مراوحاً مكانه. قال بلير في شهادته بنبرة تحدٍّ واضحة إنه "سيفعلها ثانية" لو تكررت الظروف، وهذه هي قمة المأساة: أنه لم يتعلم شيئاً، ومن حسن حظ العالم أنه يعيش في بلد ديمقراطي يتم فيه تداول السلطة استناداً إلى انتخابات عامة، والانتخابات القادمة لا يمكن أن تجيء الحكم برموز غير مسؤولة على هذا النحو تكرر ما فعله بلير. غير أنه يبقى لنا من بلير أنه مبعوث اللجنة الرباعية إلى الشرق الأوسط، ولو كانت شهادته تعبر عن الطريقة التي يفكر بها فإنه سيكون بالتأكيد واحداً من العوامل المفضية إلى مزيد من تخريب عملية السلام في الشرق الأوسط.