بعد مرور أكثر من عام على الأزمة المالية، بدأ أوباما والكونجرس في تبني حلول تنظيمية. والاستراتيجية التي تقوم عليها هذه الحلول، تعد في الوقت ذاته خريطة للكارثة التالية. والنقطة المركزية في مشروع قانون الإصلاح المالي، الذي مرره مجلس النواب الأميركي هذا الشهر، عقب الخطة التي قدمها أوباما، تتمثل في تشكيل مجلس جديد يطلق عليه"مجلس الإشراف على الخدمات المالية"، ينبني على فرضية مؤداها أن سبب حدوث الأزمة المالية، يرجع في الأساس إلى أنه لم تكن هناك هيئة ما منوط بها مهمة الإشراف على المنظومة المالية بكاملها، بل إن كل قسم من هذه المنظومة مسؤول فقط عن الجزء الخاص به في هذه المهمة الضخمة. والهيئة المنظمة الجديدة، سوف تسعى بالطبع إلى علاج هذا القصور الواضح، وإلى التعرف على، وتحييد، المخاطر التي يحتمل أن تلحق ضرراً جسيماً بالنظام المالي، بموجب نسخة المشروع الموجودة في مجلس النواب، سوف يكون لدى الجهة المنظمة السلطة، التي تمكنها من إجبار البنوك المصنفة بأنها "أكبر من أن تسقط" على بيع أصولها الأكثر مخاطرة، لتقليص تأثيرها الضار على الاقتصاد. وكما قالت المتحدثة باسم لجنة البنوك بمجلس الشيوخ "كريستوفر جيه دود" في تصريح لها الشهر الماضي: "نحن نريد نظاماً قادراً على التنبؤ والحيلولة دون وقوع الأزمة التالية". الشيء المؤكد أن مثل هذه الهيئة لم تكن لتقدر على الحيلولة دون وقوع الأزمة الحالية. فمنذ خمس سنوات على وجه التحديد، كانت هذه الهيئة - أو أخرى شبيهة لها - ستقوم بتصنيف الأوراق المالية المرتبطة برهونات من فئة AAA على أنها ورقة مالية مأمونة، وكانت ستسمح تبعا لذلك للشركات والمؤسسات الأخرى بالاقتراض بحرية مقابل هذه الأوراق. ومن المتوقع وفقاً لكافة المؤشرات أن تكون الأزمة التالية أزمة ديون حكومات وليس أزمة ديون بنوك ومؤسسات، على الرغم من أن الحكومات في كافة أنحاء العالم تصر على أن ديونها تمثل - بالنسبة للآخرين - أسلم استثمار ممكن من الناحية التنظيمية. في رأيي، ليس من مهمة الهيئات المنظمة أن تقوم بتقييم نسبة المخاطرة من الأعلى للأسفل. وقد يكون من الأفضل للكونجرس فيما يتعلق بهذا السياق أن يتبع الفلسفة التنظيمية التي خدمت الأمة الأميركية لما يزيد عن 50 عاما عقب الكساد الكبير. هذه الفلسفة تقوم على وضع حدود علياً متسقة على الاقتراض تشمل كافة الأدوات المالية المتماثلة بصرف النظر عن نسبة المخاطرة المقترنة بها. ويجب على الكونجرس أن يفعل الشيء نفسه للمؤسسات، سواء التي تسمى نفسها "بنوكاً" أو أي شيء آخر. بعد ذلك يمكن لتلك المؤسسات المالية أن تقّيم نسبة المخاطرة من الأسفل للأعلى، وهو ما يجعل الاقتصاد محمياً بشكل جيد إذا تبين فيما بعد أن تلك التقييمات ليست صائبة. ووضع حدود واضحة ومتسقة للإقراض أمر ضروري، لأن ما يحدث في بعض الأوقات أن لا أحد يرى أي خطر على الإطلاق. فقبل الكساد الكبير على سبيل المثال، كان يمكن للمضاربين أن يقترضوا أي مبلغ ومن دون أي حدود من أجل شراء الأسهم. وكانت فكرة احتمال سقوط أسعار الأسهم بشكل حاد، وبالجملة، من الأفكار التي لا تخطر على ذهن أحد في ذلك الوقت. وعندما انهارت سوق الأسهم والسندات وغيرها من الأسواق المعتمدة على البيع بالائتمان، فإن ذلك الانهيار ترك وراءه ديوناً هائلة غير مدفوعة كانت سبباً في إضعاف البنوك إلى درجة كبيرة، ومفاقمة الكساد. لمنع تكرار تلك الأزمة، فرض الرئيس فرانكلين روزفلت وصناع السياسات المالية والنقدية حدوداً منتظمة، للاقتراض لحماية الاقتصاد من الأخطاء المحتم وقوعها، من قبل المؤسسات المالية خصوصاً فيما يتعلق بانتقاء الأسهم. بموجب تلك الحدود كان مسموحاً للمستثمرين بممارسة قدر من الحرية في الاقتراض، ولكنه لم يكن مسموحاً لهم بالطبع أن يراكموا كميات هائلة من الديون، التي كان من المحتم أن تؤدي طبيعتهم البشرية إليها، بحيث يؤدي ذلك في النهاية إلى تدمير الاقتصاد. والذي أدى إلى الأزمة الأخيرة، هو أن واشنطن وعلى مدى العقدين الماضيين توقفت عن تطبيق هذه المبادئ القديمة في الأسواق الجديدة.. وكانت النتيجة المحتمة هي الكارثة التي تعرضنا لها والتي لا زلنا نعاني من آثارها. ولكن يجب القول أيضا إن استمرار واشنطن في تطبيق تلك القواعد لم يكن ليحول تماماً دون تعرض بعض المؤسسات الكبرى مثل "آيه. آي. جي" للفشل، لسبب بسيط للغاية، وهو أن الفشل جزء"صحي" من النظام الرأسمالي. ولكن ليس هناك شك في أن استمرارها في تطبيق تلك القواعد، لم يكن ليسمح لذلك الفشل أن يجر معه الاقتصاد برمته للأسفل على الصورة التي تم بها ذلك، واضطر الحكومة للتدخل من خلال حزمة إنقاذ اعتبرها كثيرون سابقة خطيرة في النظام الرأسمالي. وفي الحقيقة أن البنوك التجارية والاستثمارية تتمتع في الوقت الراهن بإعانة غير عادلة: فالتوقعات المتعلقة بإقدام الحكومة في المستقبل على إنقاذها تجعل تلك البنوك تعتقد أنه طالما ظل الاقتصاد معرضاً بصورة غير مقبولة للمخاطر الناتجة عن أخطائها، فإن الحكومة لن تخذلها أبداً. ولكن الحكومة إذا قامت، بدلًا من ذلك، بحماية الاقتصاد بشكل أفضل من أخطاء "وول ستريت" وفشله، فإن قادة "وول ستريت" سوف يدركون حينها أن الحكومة وباستخدام أموال دافعي الضرائب لن تهرع بعد ذلك لإنقاذهم. نحن لا نستطيع أن نمنع الفشل تماماً في النظام الرأسمالي - ولا يجب علينا أن نحاول ذلك.. ولكننا نستطيع، مع ذلك، إن نعزل الاقتصاد بشكل أفضل عن الآثار المدمرة لذلك الفشل. ------ نيكول جيليناس كاتب أميركي متخصص في الشؤون الاقتصادية ------- ينشر بترتيب خاص مع "خدمة لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"