في اليوم الثاني لتوقيع دمشق وأنقرة على اتفاق فتح الحدود بين الطرفين، والسماح لمواطنيهما بالسفر من دون تأشيرة دخول، تكريسا لمجموعة من الاتفاقات الاقتصادية الاستراتيجية بين البلدين، بادرني بعض الأصدقاء المصريين أثناء مؤتمر علمي كنا نشارك فيه معا في إحدى العواصم الخليجية بسؤال: ماذا يجري في الشرق بين سوريا وتركيا، وأين تتجه الأمور بهذه السرعة؟ وكان من الواضح أن تطور العلاقات السورية التركية يثير تساؤلات كثيرة عند أصدقائي من منطلق شعورهم بأن مصر ربما تفقد شيئا من مركزيتها بالنسبة للبلاد العربية، وبشكل خاص بالنسبة لدمشق التي كانت أكثر المتحمسين في الخمسينيات للعلاقات الوثيقة مع القاهرة، حتى ذهب بها الأمر إلى الدخول في وحدة اندماجية معها، شكلت لفترة من الزمن معلما رمزيا كبيرا من معالم طموح العرب إلى تحقيق وحدة عربية لم يكتب لها النجاح حتى اليوم. قلت ما هو الغريب في الأمر؟ قال أصدقائي: كيف يحصل مثل هذا التفاهم العميق بين بلدين كاد النزاع يكون سمة العلاقات الدائمة بينهما منذ انفصال سوريا عن السلطنة العثمانية؟ هل هي العثمانية الجديدة؟ وما الذي تسعى دمشق لتحقيقه من وراء ذلك؟ قلت: للأسف الشديد إن ما تراجعت بعض الدول العربية عن الإقدام عليه وتحقيقه في المشرق والعالم العربي عامة يتحقق اليوم على يدي تركيا، وهي البلد الذي كان العديد من الباحثين العرب ينظرون إليه منذ سنوات على أنه من بلاد الجوار المعادية. وقد صدرت كتب عربية عديدة بهذا المضمون. والحال أن تركيا استفادت من العقدين الأخيرين وطورت سياسات جديدة تماما، داخل تركيا وتجاه المنطقة المحيطة بها، العربية وغير العربية، بينما بقينا نحن، في مصر وغيرها، ندور في الحلقة المفرغة ذاتها لنقاشات الخمسينيات والستينيات، ونتبارى في تأكيد أطروحات الماضي أو نفيها. ولا يزال مثقفون مصريون، منذ قيام الناصرية وإلى اليوم، يتنازعون فيما بينهم حول عروبة مصر أو مصريتها، ومدى التزامها بالقضايا العربية وفي طليعتها القضية الفلسطينية، وحدود هذا الالتزام وطبيعته. مواقف النخب السياسية التركية تطورت بسرعة كبيرة. وربما كان قبول مصر المساعدة الأميركية، محفزاً على توقيع اتفاقات كامب ديفيد، مقابل رفض برلمان أنقرة عرض الولايات المتحدة مبلغ عشرة مليارات دولار لتمكينها من استخدام الأراضي التركية في الحرب على العراق عام 2003، التعبير الواضح عن تباين خيارات تركيا الجديدة ومصر ما بعد الناصرية. فقد كان هذا الرفض مفتاح تأكيد الاستقلال التركي من دون أن يعني هذا الاستقلال قطع العلاقات مع الولايات المتحدة أو معاداة الغرب ورفض التعامل مع الاتحاد الأوروبي أو حتى الانسحاب من حلف شمال الأطلسي. لكن ذلك الخيار السيادي الفعلي لم يكن معزولًا عن الخيارات الديمقراطية الداخلية للنخبة السياسية التركية بمختلف مشاربها. ففي العقدين الماضيين، لم يضطر الجيش التركي الذي نصب نفسه منذ قيام الجمهورية حارساً على السيادة الوطنية، إلى التسليم بالأمر الواقع وقبول الشرعية الانتخابية فحسب، وإنما لم يتردد قادة حزب"الرفاه" الذي اصطدم بالعسكريين، في التراجع عن العديد من مواقفهم، بل في إعادة بناء الحزب الإسلامي على أسس ليبرالية جديدة وتغيير اسمه للحفاظ على الخيار الديمقراطي والاستمرار في تطبيق برنامج العمل الوطني. وليس هناك شك في أن وراء هذه التنازلات المشتركة، والتي عبرت عن نضج النخب التركية، يتجلى تطور مفهوم المصالح الوطنية التركية، لا من حيث هي تعزيز لوضع النخبة العسكرية وتأكيد هيمنتها، أي لا من حيث هي عنتريات سيادية، وإنما كبحث عن فرص لتحسين شروط حياة الأتراك الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. وهكذا بمقدار ما تبلور مشروع وطني تركي يتمحور حول السيادة والاستقلال والحفاظ على الديمقراطية وتعزيز فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهو مشروع حداثة حقيقية، تطورت بموازاته سياسة إقليمية جديدة تهدف إلى خدمته. وبدأت أنقرة التي كانت أعظم حليف إقليمي عسكري وسياسي لإسرائيل خلال عقود طويلة سابقة تشعر بمسؤوليتها تجاه مشاكل المنطقة ونزاعاتها. فناهضت سياسات إدارة بوش العدوانية، واستفادت من علاقتها التقليدية بتل أبيب من أجل فك العزلة السورية والسعي إلى تحقيق تسوية تضمن عودة الجولان المحتل، وعبرت أكثر من مرة عن دعمها لحقوق الشعب الفلسطيني واستعدادها للعب دور في أي تسوية سياسية، وأدانت الحرب الإسرائيلية الهمجية على غزة عام 2006. ولم يتردد وزير خارجيتها في زيارة غزة ثم في إلغاء أنقرة المناورات العسكرية المشتركة التي كانت تجري مع الجيش الإسرائيلي. ولا يترك زعماء "حزب العدالة والتنمية" مناسبة من دون أن يظهروا اهتمامهم بمصير منطقتهم والحرص على المساعدة في بسط الاستقرار والسلام فيها. وهم يحققون بسبب ذلك مكاسب استراتيجية واقتصادية وسياسية وثقافية متواصلة لا تحلم بها أي من الدول العربية. ليس هناك إذن أي سر في تقدم تركيا وتنامي دورها في الشرق الأوسط والعالم العربي خاصة، وتأثر دور مصر. فمصر ما بعد الناصرية لم تهتم كثيراً بالديمقراطية في سبيل تأكيد استقرار أصبحت تربطه أكثر فأكثر بالوضع القائم. والنتيجة أن مصر، مثلها مثل معظم الدول العربية، لا تزال تعيش في عقلية الماضي، بينما تخوض تركيا معركة التفكير بالمستقبل والإعداد له. حضرتني هذه الجلسة السريعة مع أشقائي من المثقفين والناشطين المصريين، الذين كانوا معي قلبا وقالبا، بمناسبة قرار الحكومة المصرية الجديد بناء جدار حديدي عازل على حدودها مع غزة، المحاصرة منذ ثلاث سنوات. وما يبعث على الأسى أن يدافع البعض عن بناء الجدار بوصفه مسألة سيادة. يؤكد درس تركيا، وهذه هي الغاية من استذكاره، أن من يريد استقطاب الآخرين وحيازة موقع في محيطه، عليه أن يُظهر، مَقْدرة على تحمل المسؤولية في تكوين التحالفات.