يستطيع أي مراقب أن يلاحظ- بالدهشة أو من دونها- هذا التصعيد الأميركي اللافت في أكثر من جبهة إقليمية وعالمية، وفي أجواء الذكرى الأولى لنجاح أوباما الكاسح كزعيم "تصالحي" في انتخابات الرئاسة الأميركية. وكتب معظمنا عن فلسفة "القوة الناعمة". وعلى الأكثر القوة الذكية التي تغلف خطاب الإدارة الجديدة من القاهرة إلى أكرا. لكن متابعة الموقف والسياسات تجاه أفغانستان وما يجري بحضور أميركي في العراق، بل وما يحدث في اليمن، يجعلنا نرى أن ما يجري الآن في القرن الأفريقي أيضاً إنما يشير بالأصبع إلى نفس السياسة التصعيدية المثيرة للجدل بعد أن أصدر مجلس الأمن قراره رقم 1907 لعام 2009 في 23 ديسمبر 2009، لفرض العقوبات المشددة على أريتريا وفق الباب السابع الذي يصل بالعقوبات أحياناً إلى حد التدخل العسكري الدولي ضد أية دولة عضو في الأمم المتحدة! والقرار يكيل الاتهامات لأريتريا بالمساعدة العسكرية والمادية والتدريبية واللوجستية للمتطرفين الإسلاميين في الصومال، معتبراً إياها المسؤول الأول عن هذا الانهيار الذي يشهده الموقف السياسي والعسكري في الصومال وخاصة منطقة الوسط والجنوب، وهو انهيار لم تستطع أن توقفه الوساطات المعروفة بين الفرقاء أنفسهم "في الحكومة الانتقالية"، ولا بين الفرق الإسلامية المتصارعة بدورها، وقد بلغ الانقسام بين فرقائهم الثلاث الكبرى إلى حد الاقتتال الشديد، حيث أصبح انقسامهم جغرافياً إلى جانب كونه عرقياً وفكرياً. كل هذا بات في رقبة أريتريا الآن! ولم يسأل أحد إثيوبيا مثلاً عن نتائج بقائها بقوات عسكرية كبيرة- ورسمية- على الأرض الصومالية طوال عامي 2007-2008 دون فائدة بل وعودتها الخاطفة إلى وسط الصومال، وقرب "بيداوا" في هذا الشهر لتأديب الجماعات الإسلامية قرب حدودها، إزاء تصريح سابق بأنها ستدخل الصومال في أي وقت تراه ضروريا دعماً للحكومة التي تحظى بتأييدها؟. القرار الأممي جاء خاتمة لمحاولات الحد من نفوذ الإسلاميين المباشر، والذين يتخذ بعضهم أسمرة واجهة إعلامية على الأقل. ويبدو عنف القرار من أن تقديمه من قبل أوغندا وبريطانيا إشارة إلى وقوف الاتحاد الأفريقي والاتحاد الأوروبي وراءه لدعم الموقف الأميركي الذي يبدي تشدده الملحوظ في هذه الفترة في كافة مناطق الصراع التي تواجهها الولايات المتحدة. ولذلك يرى البعض أن هذا القرار ضد أريتريا ليس إلا إشارة جديدة إلى سياسة "أوباما" التي لم يستطع فيها التراجع عن التزامات ما قبله، يسانده هنا احتياج إثيوبيا للأمان من الجيران الإسلاميين واحتياج أوغندا لتمثيل دورها مع الولايات المتحدة، بل وحماية جنودها في الصومال باسم الاتحاد الأفريقي. والحق أن خطاب "أوباما" في أكرا في الصيف الماضي لم يكن يشير إلا لمسؤولية الأفارقة عن أنفسهم، ولكن ها هو التدخل الأميركي على المستوى الدولي بمثل هذا القرار، وعبر وكلاء لهم على الأرض الصومالية، يشير إلى صعوبات التغيير المتوقع في سياسة أوباما الخارجية. وقد لفت نظري أيضاً -تأكيداً لهذه الرؤية "المتشائمة"- أن القيادة العسكرية الأفريقية- الأميركية الشهيرة بـ"أفريكوم" تقوم- بنشاط ملحوظ- بدورها في الأشهر، بل في الأسابيع الأخيرة تحديداً. فثمة اتفاق تم بينها وبين عشر دول من القرن الأفريقي وشرقي أفريقيا وفي إطار الاتحاد الأفريقي لإقامة قوة شرق أفريقيا المتحركة EASF، كقوة إقليمية، يجري دعمها المباشر من قبل مركز "أفريكوم" في جيبوتي، وكذلك من قبل القوة المخصصة للقرن الأفريقي وقاعدة فريق السلام- البريطانية في نيروبي، ولم يكشف حيوية العمل التدريبي الكبير لهذه الفرق التي تضم أكثر من 1500 متدرب إلا تعرض شاحنة عسكرية تحمل جنودا روانديين في معسكرات جيبوتي في الأسبوع الماضي. نحن إذن أمام أكثر من هدف عسكري وشبه عسكري وراء التشدد مع أريتريا التي أعطت بعض المبررات بتحفظها على اتفاقات إقامة الحكومة الصومالية في جيبوتي، تضم مدنيين وإسلاميين بقيادة الشيخ شريف، وبحجة أنها لا تمثل الشعب الصومالي. وكان مصدر دهشتنا هو اقتناع أريتريا أن بعض الإسلاميين المتطرفين هم الذين يمثلون الشعب الصومالي ! لكن هذا الموقف كان يمكن على أي حال معالجته أفريقيا أو عربياً بوساطات جادة في المنظمات الإقليمية المعنية، لكن الأمر ترك كالعادة ليعالج خارج المنطقتين، فصدر اتهام أريتريا بالتحرش العسكري بجيبوتي في منطقة الحدود، كما رأينا أيضاً سكوتاً عربياً وأفريقياً تجاه الموقف الإثيوبي الرافض لقرار المحكمة الدولية بالانسحاب من منطقة "باديمي" الأريترية. السياسة الأميركية في تراجعاتها عن خط القوة الناعمة والقوة الذكية، تضع نفسها أمام مسؤوليات لن يكشفها إلا أن الولايات المتحدة تتمسك بسياسة "الفوضى البناءة"، وقد كانت هي سياسة الرئيس السابق "بوش" التي اعتمدت هذا المبدأ هنا وهنالك لتتواجد عسكرياً، وتروج لتجارة السلاح ومناطق النفوذ... الخ. وإلا بماذا سنفسر وقوفها كمشارك أو مراقب أو مخطط في مناطق تمتد من أفغانستان والعراق لتشمل مؤخراً اليمن والصومال على هذا النحو. والولايات المتحدة التي ترتب "لردع أريتريا" عبر القرار الدولي أولاً ثم دعمه بدور القيادة العسكرية "أفريكوم"، ويبدو أنها قد انتهت من معركة مواجهة "القرصنة الصومالية" في المحيط الهندي! ومن حسن حظ أريتريا أنها لم تتهم بقيادة "حرب القرصنة أيضاً عبر "أساطيلها" في البحر الأحمر والمحيط! لكن أريتريا تستطيع أن تسعد الآن بتوحد موقف ليبيا والصين في مجلس الأمن لرفض العقوبات، وهذا مكسب لا بد أن تحرص عليه الدول العربية والأفريقية بشكل مناسب. وتظل المشكلة أن قوى إقليمية كبيرة في حوض النيل والقرن الأفريقي والبحر الأحمر، وأقصد مصر وإثيوبيا والسعودية وبحكم أوزانها التاريخية لا تستطيع أن تلعب دور القوى الإقليمية الفاعلة في مواقف مثل التي استثمرتها ليبيا والصين، ولمعالجة الموقف بالتعاون مع أريتريا ذاتها، ومن ثم تترك لبيانات "الأفريكوم" تتحدث وحدها عن "دور مهم " لقواتها- هكذا- في شرق أفريقيا والقرن الأفريقي لتحقيق "السلام"، بينما تنشأ الاضطرابات في جو الفوضى البناءة بهذا القدر، مرة في المحيط الهندي، وأخرى في "بيداوا" بما لا يمكن معه تصور أن القوة الأريترية وراء كل ذلك!