ثمة مسألة اجتماعية مارست دوراً ملحوظاً في التغيير التاريخي، كما شغلت موقعاً ذا أهمية في نسيج المجتمعات العربية، ونادراً ما جرى البحث فيها نظرياً وميدانياً، وهي الفئات الوسطى. وهذه تمر الآن بوضعية قلقة ومضطربة جداً في العالم الراهن، بل إنها تظهر -في المجتمعات العربية- بصيغة تدعو للاعتقاد بأنها في وضعها الحالي تُسهم في استباحة هذه المجتمعات وخربطة احتمالاتها وتوجهاتها، خصوصاً في سياق التحولات العظمى التي تجتاح العالم أولاً، كما في إطار الأزمات العميقة، التي تخترق المجتمعات المذكورة اقتصاداً وسياسة واجتماعاً وثقافة، وغيره ثانياً. ومهم أن يقال، إن هذا الشأن له أهمية خاصة، فعبر ما آلت إليه هذه الأخيرة، يلاحظ أنها سقطت بكيفية مأساوية تتحدد بالتشظية والتحلل والانتقال إلى زواريب المجتمعات العربية. ولم تقتصر الصورة وانعكاسها على الفئات المذكورة وحدها، فهي تترك آثاراً عميقة، كذلك، على المجتمعات العربية وحقولها المختلفة. ومن اللافت أن سقوط الفئات الوسطى في تلك المجتمعات أتى تحت وطأة التغيرات الاقتصادية والسياسية الاجتماعية هناك، يداً بيد مع تغيرات تاريخية برزت في مجتمعات صناعية غربية متقدمة. أما على هذا الصعيد، فقد برزت مرحلة جديدة من تطور الليبرالية في المجتمعات المذكورة، هي الطائشة كما يرى رمزي زكي، والمتوحشة كما دعاها سمير أمين. وعلى الصعيد الداخلي العربي، برزت مرحلة "النفط السياسي"، التي كرّست -مع غيرها- ظهور علاقات اقتصادية اجتماعية استهلاكية، وتعاظَم التفاوت الاجتماعي، وتبلور نمط من السلطة السياسية هي "الدولة الأمنية"، ومن ثم بداية تصدع عميق وسريع للفئات المتوسطة. وإذا كان ممكناً تقسيم هذه الأخيرة إلى ثلاث هي العليا والدنيا وما بينهما، فنحن نلاحظ أن شطراً من العليا راح يتجه نحو الأعلى القريب من طبقة التجار والعقاريين الكبار ومن ذوي السلطة على رأس الهرم. أما الفئات الدنيا فقد راحت تدخل في نفق حالات مطّردة ومتعاظمة من الإفقار، بحيث أخذت -في معظمها- تندمج اقتصادياً واجتماعياً ولكن ليس أيديولوجياً على الأقل، في نسيج الفقراء التقليديين الذين أخذوا مواقعهم على حدّ السيف والفقر والبؤس والتصدّع. وتبقى الفئات الوسيطة لتجد نفسها بين السماء والأرض، مُخفقة في تحقيق شروط العيش والكرامة. فيجد أفرادها أنفسهم أمام سيل جارف من الفساد والإفساد، والتحول إلى نِخاسة مميتة. وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي تبقى على بساطة الحديث عن علاقة "النهضة العربية" بتلك الفئات الوسطى؟ إن هذه الأخيرة تجد نفسها مَقْصيّة من دائرة الحامل الاجتماعي لتلك النهضة، وعاجزةً عن الإسهام في الإنتاج الثقافي النهضوي. ولهذا، تكف عن أن تمارس وظيفتيها الكُبْرييْن: المشاركة في الإنتاج الحثيث لشروط النهضة بصيغة التمكين لضبط الحدود بين حواملها الاجتماعي والسياسي أولاً، وإعادة بناء التوازن في المجتمعات العربية في ضوء العدالة الاقتصادية والحرية السياسية والازدهار الثقافي، ثانياً، فتخرج من تحت عبء الأفكار الظلامية الثأرية، وتسهم في إنتاج أيديولوجية نهضوية تعيد لتلك المجتمعات لحمتها، وإمكانية تقدهما الشامل، ومع أفول استنارتها العقلية، وفقدان ميسوريتها الاقتصادية، يدخل معظم جسمها الاجتماعي في رهانات القوى الظلامية الإرهابية.