في الثامن عشر من هذا الشهر حملت وسائل الإعلام نبأ استيلاء قوة عسكرية إيرانية على بئر في حقل "الفكة" النفطي العراقي، لكن وكالة الأنباء الإيرانية الرسمية نفت سيطرة جنود إيرانيين على أي بئر للنفط. وبعد ذلك بحوالي يومين أعلن الناطق باسم الحكومة العراقية أن القوة الإيرانية انسحبت من الحقل، لكنها ما زالت داخل الأراضي العراقية، وبدا أن هناك تفاهماً رسمياً عراقياً- إيرانياً على وجود مشكلة ترسيم حدود في المنطقة التي يقع فيها الحقل، وأن هذه المشكلة باتت واجبة الحل في ضوء التطور السابق. بدت هذه التطورات غريبة إلى حد ما، فالحادث في مجمله صغير بكل المعايير، لكن دلالاته أهم من أن تمر دون تفكير. فهو صغير لأن البئر واحدة ضمن سبع آبار يضمها حقل "الفكة" الذي ينتج حوالي عشرة آلاف برميل يومياً، وهو بهذا المعنى حقل صغير للغاية بالمعايير العراقية، والحادث صغير أيضاً لأن القوة الإيرانية التي استولت عليه قدرت بأحد عشر فرداً(!) فلماذا ثارت كل هذه الضجة حوله؟ الإجابة الفورية بطبيعة الحال أن المسألة ذات صلة بسيادة العراق، بغض النظر عن أهمية البئر أو عدد القوات التي استولت عليها. غير أن المفاجأة تمثلت في دلالات قوية على أن الحادث لم يكن الأول من نوعه. لنقرأ أولاً هذه الشهادة من ضابط أميركي برتبة عقيد أفاد في تصريح له "أن موظفين عراقيين في وزارة النفط يزورون هذا الموقع كل ثلاثة أو أربعة أشهر لإصلاح مضخة أو لإجراء أعمال صيانة، ويطلونه بالألوان العراقية، ويرفعون العلم العراقي، وعندما ينهون عملهم يعودون أدراجهم... وما إن يذهبوا حتى ينزل الإيرانيون من التلة، ويعيدون طلاء الألوان الإيرانية، ويرفعون العلم الإيراني. لقد حدث هذا منذ سبعة أشهر". لا مصلحة للضابط الأميركي فيما قاله، إلا إذا كان يريد أن يدق إسفيناً بين البلدين، وهو سلوك لا يتناسب مع سياسة التهدئة الأميركية الحالية تجاه إيران، ولا مع الموقف الأميركي الفاتر تجاه الحدث السابق. وعلى أية حال فإن حديث العقيد الأميركي معزز بحديث مماثل من مصدر عراقي، فقد صرح عضو بلجنة الدفاع والأمن في البرلمان العراقي بأن "التوغل لم يكن الأول من نوعه، فإيران كانت مراراً تتدخل في العراق". إذا كانت المسألة مسألة سيادة، وكان هذا الوضع موجوداً منذ ما قبل دخول قوات إيرانية البئر، فلماذا يثار الموضوع الآن بالذات؟ وهل يعني ما سبق أن الأزمة لم تكن سوى سلوك إيراني اختارت دوائر عراقية رسمية أن ترد عليه على نحو مختلف؟ ولماذا؟ وغير ذلك من الأسئلة التي بقيت دون إجابة. من ناحية ثانية كشفت الأزمة أن العراق ما زال منقسماً بوضوح حتى تجاه المسائل التي ينبغي أن تكون موضع إجماع وطني، فبينما أدانت دوائر عراقية رسمية الحادث بكل شدة، وتفجرت مظاهرات شعبية ضد إيران في أعقابه، فإن دوائر عراقية أخرى تعاملت مع الحادث وكأنه خطأ لحكم في مباراة لكرة القدم أدى إلى احتساب هدف غير صحيح، وقد بدا في هذا السياق أن ثمة تفاهماً واضحاً بين هذه الدوائر العراقية "الهادئة" وبين السلطات الإيرانية على أن الحادث لا يعدو أن يكون ناتجاً عن سوء تفاهم نتيجة حاجة المنطقة الحدودية التي يقع فيها حقل "الفكة" إلى ترسيم الحدود. وامتد هذا الانقسام إلى الشارع العراقي، فبينما تفجرت مظاهرات الغضب في مناطق معينة داخل العراق تعامل ممثلو القوى السياسية المعروفة بولائها لإيران مع الحدث على نحو شديد الهدوء. غير أن البعد الإيجابي في هذا الصدد تمثل فيما كشفت المظاهرات المنددة بالحدث الداعية إلى إزالة آثاره من أن هذه المظاهرات لم تكن "سنية"، وإنما كانت بشمولها مدناً عراقية جنوبية مهمة ذات طابع "وطني" يتجاوز البعد الطائفي. قد يبدو حادث الاستيلاء الإيراني على بئر "الفكة" أكثر أهمية إن هو وضع في سياق المؤشرات التي تفيد بوجود سلوك إيراني توسعي في منطقة الخليج العربية ككل. هناك بطبيعة الحال المشكلة المزمنة المتمثلة في احتلال إيراني صريح للجزر الإماراتية الثلاث، وهناك ثانياً الإشارات الإيرانية إلى "تبعية" البحرين لإيران، وإن كان المسؤولون الإيرانيون يتخلصون في كل مرة من الأزمات التي تنجم عن تلك الإشارات بادعاء إساءة فهمها من الآخرين، أو صدورها عن دوائر لا تعبر عن السياسة الرسمية للنظام. وهناك ثالثاً النفوذ الإيراني داخل العراق بعد الاحتلال الأميركي، والذي يتم على نحو مباشر أو من خلال القوى السياسية المعروفة بولائها للنظام الإيراني. ولهذا كله لا يقل رد الفعل العربي الرسمي للأحداث غرابة عن رد الفعل العراقي، فقد قوبل الموضوع بهدوء. وعلى أية حال فإن الحادث قد كشف عن استمرار معضلة العلاقات العربية- الإيرانية، فالأصل في هذه العلاقات أن تشكل محوراً مشتركاً ضد إسرائيل وكذلك ضد محاولات الهيمنة الأجنبية على المنطقة، ومن أجل تحقيق تنمية في المنطقة تكون خير سند لاستقلال دولها، لكن الدوائر الحاكمة في إيران تتجاوز بسلوكها دور الحليف أو الصديق، وتقدم على ما سبقت الإشارة إليه من أفعال تشي برغبتها في الهيمنة الإقليمية، وهي أفعال لا يمكن مواجهتها إلا بموقف عربي موحد ما زال للأسف غائباً حتى الآن.