استمعت في إحدى الندوات الإعلامية العربية المهمة التي حضرتها مؤخراً إلى أحد الصحافيين ينعي "صاحبة الجلالة"، ويعني هنا الصحافة الورقية أو الصحافة المكتوبة. ذكر الزميل أرقاماً مخيفة تعكس وتيرة الإحجام المطرد عن الصحف، وهبوط مبيعاتها، وتراجع الإعلانات التجارية فيها. ذكرت للزميل أن عبارة "أزمة" التي يكثر استخدامها في الكتابات العربية تعكس في حقيقة الأمر أزمة تشخيص وعجز عن إدراك الظواهر المستجدة واستكناه التحولات الجارية. فالأزمة بهذا المعنى يتحدد استخدامها بالنظر لما يعتبر إطاراً مرجعياً أصلياً، يؤخذ نموذجاً أو أصلًا يقاس عليه. ذكرت للزميل أن لدي أرقاماً أخرى تستدعي وقفة تحليل وتقويم، قدمت في الدراسات المهمة التي عرضت خلال المنتديات العامة للصحافة التي نظمتها الحكومة الفرنسية بإشراف الرئيس ساركوزي. من بين هذه الأرقام أن المجال الاتصالي بمفهومه العام يتسع سنوياً في العالم بوتيرة لا تقل عن 30 بالمائة في المعدل. وإذا كان الأمر هنا يشمل الإعلام الفضائي والإلكتروني، فإن للصحافة المكتوبة أيضاً نصيبها في التطور والاتساع على عكس ما يظن. ففي البلدان الصاعدة (الهند والبرازيل والصين...) تشهد الصحافة المكتوبة في أيامنا قفزة نوعية، ناتجة عن عاملين أساسيين هما:من جهة تحسن المستوى المعيشي للسكان بفضل الإقلاع التنموي الناجح، وارتفاع نسبة التمدرس وانخفاض مستوى الأمية مما دعم القدرة القرائية لدى المواطن ووفر سوقاً متسعة للصحافة. فالأزمة التي عرفتها كبريات الصحف المكتوبة في أوروبا والولايات المتحدة هي في جانب كبير منها مرتبطة بمناخ الأزمة المالية والاقتصادية العالمية التي أثرت سلبا على المؤسسات الصحافية على غرار باقي الشركات والمؤسسات التجارية . صحيح أن الإعلام الإلكتروني أصبح يستحوذ على الجانب الأوفر من الفضاء الاتصالي (تنضاف كل يوم مليون ونصف مليون صفحة إلى الشبكة)، بيد أن ما لا يدركه الكثيرون هو أن الوسائط الإلكترونية توفر فرصة غير مسبوقة للصحافة المكتوبة المرشحة للتوسع المطرد بفضل هذه الإمكانات التقنية الجديدة. وتبين لنا تجارب اكتشاف الوسائط الاتصالية الجديدة أن كل نقلة تقنية قد ولدت هاجساً مماثلاً بالتحول الجذري والقطيعة الحاسمة مع الوسائط السابقة.وبالاستناد إلى نظرية "رجيس دوبريه " مؤسس "علم المديولوجيا" (العلم الذي يدرس أوجه التداخل والتفاعل بين تقنيات الاتصال وصيغ الاعتقاد والثقافة والفكر والتنظيم الاجتماعي)، فإن البشرية عرفت خلال تاريخها ثلاث دوائر اتصالية كبرى هي" دائرة اللوغوس"logosphere المرتبطة باكتشاف الكتابة، و"دائرة الخط"graphosphere المرتبطة باكتشاف المطبعة و"دائرة الفيديو"videosphere المرتبطة باكتشاف التقنيات السمعية البصرية. فعندما اكتشفت المطبعة ظهر جدل واسع حول مستقبل الكتابة باليد، ووصل النقاش إلى الدوائر الدينية، بل كان للمطبعة دور محوري في حركة الإصلاح داخل التقليد المسيحي بما وفرته من تعميم للكتب المقدسة التي كانت حكراً على رجال الكنيسة الذين يختصون بتأويلها. وعندما ظهر التلفزيون أعلنت نهاية الصحافة المكتوبة، بيد أن الواقع أثبت أن الصحف الورقية تعايشت مع هذا الجهاز السحري، بل إن العهد الذهبي للصحف الورقية، كان بعد الحرب العالمية الثانية، الذي شهد انطلاقة ثم توسع التلفزيون. وما نلمسه اليوم هو تحول ليس له علاقة بطبيعة الوسائط ذاتها، ذلك أن الفضاء الإلكتروني وفر فرصة مثالية غير مسبوقة للصحافة للوصول إلى الناس بأرخص الأثمان وأسرع الأوقات، كما زاد من قدراتها التسويقية على عكس الصورة السائدة (زاد حجم الإعلانات الترويجية في مواقع الصحف الإلكترونية بـ12 بالمائة في السنة المنصرمة رغم الأزمة المالية العالمية). إلا أن الصحف لم تتساو في قدرتها على التأقلم مع الإمكانات الجديدة المتاحة التي غيرت بعض جوانب العمل الصحافي. وسنكتفي بالوقوف عند مستويين محوريين من مستويات هذا التحول الذي طال العمل الصحافي هما: الانفصام بين الصحافة والهوية الوطنية، وانتهاء احتكار الصحافة المؤسسية للتعبير العمومي. فبخصوص المستوى الأول: تتعين الإشارة إلى أن تاريخ الصحافة المكتوبة ارتبط في الغرب بتشكل الدولة القومية الديمقراطية. فلكل من البلدان الغربية جرائدها القومية التي عبرت في مراحل تاريخية عن هويتها الثقافية وخصوصيتها الوطنية (التايمز البريطانية، لوموند الفرنسية ...)، ولا تخفى العلاقة البديهية بين حقلي التداول العمومي في الدوائر الانتخابية وصفحات الجرائد المكتوبة. وإذا كان التلفزيون قد أثر على هذه المعادلة منذ عقد الستينيات تاركاً بعض الأثر على الحياة السياسية (التركيز على الجوانب الاستعراضية في الحملات الانتخابية التي كرست نموذج الرئيس- الممثل على غرار الرئيس كيندي بدل الرئيس – الخطيب)، فإن الفترة نفسها شهدت بروز شكل جديد من الصحافة هو صحافة "الاستقصاء والتحقيق"، التي ترمز لها حادثة ووترغيت. فهذا الشكل الجديد كرس الدور المتعاظم للصحافي في الشأن السياسي وحوله بالفعل إلى سلطة رابعة مخوفة حسب التعبير الشائع. كما ظهرت في الفترة ذاتها صحافة الرأي في سياق الصراع الأيديولوجي الذي كان دائراً بقوة خلال الحرب الباردة. واليوم مع تغير المشهد السياسي والانفصام المتزايد بين حقلي المواطنة والسيادة، تتغير طبيعة العمل الصحافي، الذي أصبح مرغماً على الجمع بين حدي المحلية الأكثر ضيقاً والكونية المفتوحة. أما المستوى الثاني، فيتفرع من العامل الأول، فإذا كانت الديمقراطيات الراهنة مرغمة على التعامل مع تحديات الفردية والجمعياتية، التي هي سمات المجتمعات المعاصرة، فإن طبيعة العمل الصحافي مرغمة أيضاً على التكيف مع هذه المعطيات. فالتقنيات الجديدة (الإنترنت والهاتف الجوال والذكي والقناة الرقمية الأرضية...) توفر البيئة الملائمة لقيام صحافة متعددة الوسائط تشجع الفردية الاستهلاكية وإعادة توزيع المنتوج الصحافي حيث يتداخل المنتج والقارئ، ويتوفر حيز غير مسبوق للصحافة الشخصية (المدونات..). ولهذا التحول أثره على طبيعة الإعلان، الذي تتوسع نحو التسويق المباشر والشخصي والرعاية المتعددة الأوجه. إنه عصر ذهبي جديد للصحافة المكتوبة، لا يرتبط ضرورة بتجربة الطباعة التقليدية (الورق)، التي لا تمتزج عضوياً بطبيعة الممارسة الصحافية ...فلا عبرة بصرخات الذعر واليأس، ولا بأحلام العصر الإلكتروني البديل.