فوجئ العالم بمنح أوباما جائزة نوبل للسلام بعد تسعة أشهر فقط من تسلمه مهامه كرئيس للولايات المتحدة الأميركية. لقد أثار هذا الحدث ردود فعل كثيرة متنوعة استغرب معظمها منح هذه الجائزة لرئيس لم يحقق بعد شيئاً يبرر استحقاقها، وكان الاستغراب ممزوجاً بالتهكم أحياناً من طرف أعضاء من الحزب "الجمهوري"، بينما اعتبر آخرون "محايدون"، وهم أقل عدداً ووزناً، أن هدف اللجنة المانحة للجائزة هو ممارسة نوع من الضغط عليه ليسير في اتجاه تحقيق وعوده الانتخابية التي كانت متميزة باختيارات وشعارات في صالح السلام... الخ. ومع أن أوباما كان قد وعد في حملته الانتخابية بمواصلة سحب الجنود الأميركيين من العراق، وبالمقابل شدد على ضرورة مواصلة الحرب في أفغانستان حتى تحقيق النصر (وهذا خطأ قاتل)، فإن قراره إرسال ثلاثين ألف جندي إلى أفغانستان قبل تسعة أيام فقط من حفل تسلمه للجائزة قد وضعه في إحراج مزدوج: كيف يخفف من استغراب واستهزاء خصوم حزبه من "الجمهوريين" المتطرفين من جهة؟ وكيف يبرر في نفس الوقت، أمام قاعدته الانتخابية، إرسال ثلاثين ألف جندي إضافي إلى أفغانستان من جهة أخرى؟ لتحقيق هذين الهدفين عمد أوباما إلى طرح مسألة "الحرب العادلة": لقد شرح ووظف هذا المفهوم بما يرضي خصومه "الجمهوريين"، ولا يثير كثير انتقاد أو سخط في صفوف مؤيديه والمعجبين به. ذلك ما حدث فعلا: لقد نجح في إرضاء "الجمهوريين"، فصفقوا له ونوهوا به، وهذا ما أبرزته وكالة "فرانس بريس" في تعليق لها قالت فيه: "إن أوباما الذي ورث من سلفه جورج بوش حربين، في العراق وأفغانستان قد عمل في خطابه، حين تسلمه الجائزة في أوسلو، على تبرير اللجوء إلى القوة، وبالتالي تبرير إرسال 30.000 جندي أميركي إضافيين إلى أفغانستان قبل تسعة أيام فقط من تسلمه الجائزة. وهذا صفق له اليمين الأميركي، مبدياً ارتياحه من كون جائزة نوبل للسلام لعام 2009 قد جعلت أوباما يدافع عن مفهوم "الحرب العادلة" ضد أعداء الولايات المتحدة الأميركية. لقد صرح جينجريش -تقول فرانس بريس- بأنه "قد وجد في هذا الخطاب، ما يجعله من بعض النواحي، خطاباً تاريخياً"، مُثَمِّناً تأكيد أوباما على فكرة "وجود الشر في العالم". أما السيدة بالان، الوجه البارز في الجناح المحافظ في اليمين الأميركي، فلم تتردد في القول في تصريح لجريدة "يو إس توداي": "لقد سرني ما قال"، مضيفة: "إن الحرب في نظري هي بكل تأكيد آخر شيء ينبغي أن يلجأ إليه الأميركيون، لكنها ضرورية: يجب إيقاف هؤلاء الإرهابيين عند حدهم". هذا عن خصوم أوباما، أما أصدقاؤه ومؤيدوه فمع أنهم لم يُخفوا امتعاضهم من إرساله ثلاثين ألف جندي إضافي إلى أفغانستان، فقد أرضاهم خطاب "الحرب العادلة" لكونه أنقذ رئيسهم من "مخالب الجمهوريين". بعد هذا التقديم الإخباري لنلق نظرة سريعة على مفهوم "الحرب العادلة" وعلى الكيفية التي وظفه بها أوباما ليقلب المعادلة التي يقوم عليها، فنقول: كثيرة هي الأدبيات (الدينية والفلسفية والسياسية... الخ) التي تحدثت منذ القرن الأول للميلاد، على الأقل، عما يدعى بنظرية "الحرب العادلة". (وهي نظرية تتطابق تماماً مع مفهوم "الجهاد" في الإسلام كما شرحناه في هذا المكان في حلقتين سابقين (1 ديسمبر-8 ديسمبر)، إنها نظرية تشترط في وصف حرب ما بأنها حرب عادلة (من الناحية الأخلاقية) أن توافر فيها شرطان: أولهما أن تكون من أجل الدفاع عن قضية عادلة، مثل الدفاع عن النفس. والثاني أن تكون الوسائل التي تستعمل فيها وسائل أخلاقية. إن هذا يعني: - من جهة، أن يكون القصد الأول من الحرب هو رفع ظلم حاصل، وأن تكون آخر ما يُلجأ إليه، بعد استنفاد جميع المحاولات لدرئها سلمياً، وأن تقوم بها سلطة حكومية تتمتع بالكفاءة والقدرة، هدفها خدمة الصالح العام، وأن تكون لها أهداف محددة، وألا تتجاوز ما هو ضروري لتحقيق سلام عادل، وأن يحصل للقائمين بها ظن قوي باحتمال النجاح فيها. إن النوايا الحسنة لا تكفي في هذا المجال، فلابد من شبه اليقين بالنصر، فليس من الأخلاق في شيء الدخول في حرب عبثية لا تحقق نتائج على صعيد السلام العادل. - ومن جهة أخرى يجب مراعاة أخلاقيات معينة، على رأسها التمييز أثناء الحرب بين المقاتلين (العسكر) وغير المقاتلين (المدنيين)، بصورة تحفظ هؤلاء من أي أذى. كما يجب تجنب الإضرار بالمنشآت المدنية مثل المستشفيات والمنازل ووسائل النقل غير العسكرية... الخ. وأن تكون الوسائل المستعملة من أجل تحقيق النصر على قدر الأهداف المتوخاة، فالهدم من أجل الهدم غير مقبول. هذا بالجملة عن مفهوم "الحرب العادلة"، لكن أوباما لم يتقيد بهذه الشروط بل حذا حذو "البيان" الذي أصدره مثقفون أميركيون يمينيون لتبرير شن جورج بوش الحرب على العراق وأفغانستان، وذلك من خلال طرح مفاهيم وشعارات تشوش على معنى "العدل" في نظرية "الحرب العادلة"، مفاهيم وشعارات من قبيل "وجود الشر في العالم"، و"الاضطرار" لخوض الحرب في بعض الحالات. لقد سلك أوباما هذا المسلك في خطابه فقال بصريح العبارة: "أنا أواجه العالم كما هو، ولا يسعني الوقوف جامداً في وجه الأخطار التي تهدد الشعب الأميركي. فلا يَشُكَنَّ أحد في أن الشر موجود فعلا في العالم. فحركة اللاعنف ما كان ليكون بإمكانها أن توقف جيوش هتلر. والمفاوضات لا تقدر على إقناع زعماء القاعدة بإلقاء أسلحتهم. والقول بأن القوة قد تكون ضرورية أحياناً ليس دعوة للتشكك الساخر -بل هو إدراك للتاريخ، ونواحي قصور البشر وحدود المعقول". في هذا الإطار يضع خطاب أوباما الحروب التي شنتها حكومات بلاده في كثير من أنحاء العالم. ومع أنه لمح إلى أن بلاده قد خاضت حروباً اضطرت إليها، لا تستجيب لشروط الحرب العادلة فإنه سكت عن مسألة أساسية في تلك الحروب وهي: من شن الحرب على من؟ من كان المعتدي ومن كان يدافع عن النفس؟ : هل كانت حرب الإدارة الأميركية على العراق من أجل الدفاع عن النفس، خصوصاً بعد أن ثبت لها أن العراق لا يملك أسلحة دمار شامل؟ وما ذنب شعب أفغانستان حتى تشن الإدارة الأميركية، السابقة والحالية، حرباً تدميرية على بلاده. وهل إذا كان بعض المقيمين فيها من غير أهلها قد شنوا هجوماً إرهابياً -فظيعاً فعلا- على الولايات المتحدة فهل يبرر ذلك تدمير دولة أفغانستان وضربها بصواريخ تقتل المدنيين، نساء ورجالا وأطفالا وشيوخاً؟ لقد وقع الاعتداء على أميركا من طرف منظمة إرهابية عالمية، ولكن هل دولة أفغانستان وشعبها هما جميعاً أعضاء في هذه المنظمة، أو مناصرين لها؟ إنها أسئلة تفضح القلب والانقلاب الذي مارسته وتمارسه الإدارة الأميركية في أفغانستان على مفهوم "الحرب العادلة"، بل على الديمقراطية!