بينما تعمل كل من واشنطن وموسكو معاً من أجل التوصل إلى معاهدة جديدة تهدف للسيطرة على الأسلحة، فقد حان الوقت للتطلع إلى ما سوف يكون عليه مستقبل العلاقات الأميركية- الروسية. فربما لا تكون الفجوة الأوسع بين روسيا والغرب هي ملف أفغانستان أو إيران، بقدر ما تتعلق بأوروبا. فقد بدت واضحة الآن نذر ومؤشرات تفكك نظام الأمن الأوروبي الذي تم بناؤه عقب نهاية الحرب الباردة. وما لم تنتبه إليه الصحافة الأميركية هو اقتراح موسكو لمسودة معاهدة جديدة للأمن الأوروبي، استجابة لنداء الرئيس ميدفيديف لإحداث تغييرات على نظام الأمن الأوروبي في أعقاب الحرب الروسية- الجورجية التي نشبت في شهر أغسطس من العام الماضي. وفي خطوة موازية تقدم وزير الخارجية الروسي لافروف بمسودة وثيقة ثانية أكثر إثارة للقلق في اجتماع مجلس الناتو- روسيا المشترك. وهذه هي فقط آخر الخطوات من بين سلسلة من التحركات الروسية الرامية إلى تغيير الطريقة التي يدار بها نظام الأمن الأوروبي، خاصة من ذلك ما يتعلق بتحركات موسكو الرامية لتقييد "الناتو"، وإيقاف أي توسع مستقبلي للتحالف الغربي. وتشير كلتا الوثيقتين إلى سعة الفجوة التي تفصل بين الغرب وروسيا عندما يأتي الأمر للطريقة التي نفكر بها بشأن مستقبل الأمن الأوروبي. وبدلاً من أن تمضي موسكو باتجاه علاقات القرن الحادي والعشرين، نرى العاصمة الروسية التحريفية وهي تؤكد عزمها على العودة إلى سياسات "مناطق النفوذ" التي سادت طوال القرن التاسع عشر. وبسبب انشغال إدارة أوباما -كما هو مفهوم- بالحرب الدائرة في أفغانستان، إضافة إلى تصاعد نذر الخطر الإيراني، تأمل موسكو التي تعلم مدى حاجة الغرب لتعاونها في هذه القضايا، أن يبدي استعداداً للتنازل عما تدعيه روسيا من مزاعم نفوذ لها في المناطق الغربية المتاخمة لحدودها، وهو ما يسمح لها بوقف المزيد من زحف المؤسسات الغربية باتجاه الشرق. يذكر أن ميثاق باريس لأوروبا الجديدة الذي كان قد تم التوقيع عليه في عام 1990، وكذلك ميثاق إسطنبول للأمن الأوروبي لعام 1999، كان من المفترض فيهما التأسيس لما يمكن أن يكون "قانوناً للحقوق" قصد منه وضع الأساس السياسي اللازم لمرحلة سلام ما بعد الحرب الباردة. وقد نص كلا الميثاقين على رفض مفهوم "مناطق النفوذ" والاعتراف بحق كافة الدول في التمتع بالتساوي الأمني واختيار ما تراه مناسباً لها من تحالفات باعتبار أن ذلك جزء من هيكلية تعاون أمني جديد فيما بينها. وقد وافقت موسكو حينها على هاتين الوثيقتين في وقت أبدت فيه استعداداً للتخلي عن ماضيها الإمبريالي والانضمام إلى أسرة غربية كان يتسع نطاقها باستمرار. ولكن على إثر تراجع التوجهات الغربية في موسكو في مقابل عودة النزعات الإمبريالية مجدداً إليها في نهاية التسعينيات، بدأت تتخذ موقفاً مختلفاً إثر استنتاجها أن الوثيقتين المذكورتين أعلاه تهدفان إلى تشجيع التوسع الغربي على حساب حدائقها الخلفية. وقد رأيت بنفسي هذه التوجهات الجديدة عندما كنت أعمل حينها مفاوضاً أميركياً في محادثات ميثاق إسطنبول الخاص بمنظمة التعاون والأمن الأوروبي. وأثناء حضوري لحفل عشاء في عام 1999 كنت قد شرحت لزميلي المفاوض الروسي مفهومي الخاص عن تعزيز إطار عام للقواعد والأعراف التي تغطي نشاط منظمة التعاون والأمن الأوروبي، بما فيها روسيا. غير أن المفاوض الروسي -الذي كان يعمل نائباً لوزير خارجية بلاده حينها- رسم خريطة مصغرة لأوروبا ووضع خطاً في جزء معين منها قائلاً لي: "ذاك نصفكم وهذا نصفنا. ولكن المشكلة أن نصفكم يتسع باستمرار". واليوم يبدو كلا الميثاقين في وضع أشبه بذلك النوع من الوثائق الميتة في عيون المسؤولين الروس الذين يجمعون في رأيهم على أن الغرب استغل هذين الميثاقين لتوسيع "مناطق نفوذه" شرقاً باتجاه الحدود الروسية. بيد أن الحقيقة هي أن توسيع حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي لم يكونا بفعل تدبير جيوبوليتكي قصد منه إذلال موسكو، بقدر ما كان استجابة من الغرب لرغبة الجمهوريات التي استقلت عن النفوذ الروسي واختارت لنفسها طريق الانضمام إلى الغرب بغية تأمين سلامها الديمقراطي. وقد تفاقم الأمر كثيراً إثر اتخاذ روسيا نهجاً تحريفياً مغالياً في وطنيته. ويمثل هذا النهج العامل الرئيسي الذي يفسر حربها على جورجيا في عام 2008. فالحقيقة هي أن تلك الحرب لم تنشب بفعل النزاعات القائمة حينئذ بين موسكو وتبليسي بسبب إقليمي أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا، وإنما سببها الرئيسي هو رغبة تبليسي في التحالف مع الغرب، وإصرار موسكو على منع ذلك التحالف. واليوم أصابت إدارة أوباما، دون شك، في محاولتها إعادة تأسيس العلاقات الأميركية- الروسية مجدداً. فالتعامل مع روسيا بالنهج الذي تسير عليه حالياً يتطلب التفاوض الدبلوماسي معها بكل تأكيد. غير أن من الواجب علينا أن نحدد أولاً أي المصالح الروسية يمكن أن نعتبره مشروعاً، وأيها علينا أن ننفي عنه صفة الشرعية. فلموسكو حق التمتع بالتساوي الأمني، ولها حق ضمان عدم تعرض حدودها لأي مهددات أمنية جديدة. ولكن ليس لها في المقابل حق التدخل في الشؤون الداخلية لجاراتها. فهي لا تكف عن محاولات الإطاحة بحكوماتها، والتدخل في سياساتها وطموحاتها الخارجية. وعلينا التزام الوضوح التام في مثل هذه القضايا. ذلك أن إعادة تأسيس علاقات الغرب مع روسيا، تتطلب قبل أي شيء آخر، عودة الكرملين مجدداً إلى المبادئ التي نص عليها ميثاق باريس. رونالد دي. آزموس مسؤول سابق بوزارة الخارجية الأميركية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"