رغم انقساماته حول مواضيع وقضايا كثيرة، بدءاً من مشروع الرئيس أوباما لإصلاح النظام الصحي، وليس انتهاءً بالمقاربات الحالية حول معضلة التغير المناخي ومشاريع الطاقة البديلة... فقد اتفق مجلس الشيوخ الأميركي خلال جلسته يوم الخميس الماضي، وفيما يعبر عن حالة إجماع لافتة، على إقرار تعيين رئيس جديد لـ"الوكالة الأميركية للتنمية الدولية"، هو راجيف شاه الذي أصبح رئيساً لوكالة تضطلع بدور حيوي في السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وتعد أضخم هيئة حكومية أميركية للدعم الخارجي، إذ يصل حجم أنشطتها حالياً حوالي 20 مليار دولار، ويتجاوز عدد العاملين فيها 6800 شخص موزعين على 80 بلداً في العالم، وتتأهب لمضاعفة تمويلها خلال الأعوام القليلة المقبلة. وكان إجماع الديمقراطيين والجمهوريين في "الشيوخ" على تثبيت شاه في منصبه الجديد متوقعاً؛ كونه صاحب سيرة مهنية وعلمية مثيرة للإعجاب. وحين رشحه البيت الأبيض لذلك المنصب، يوم العاشر من الشهر الماضي، وصفه أوباما بأنه "الشخص المناسب" لرئاسة الوكالة، قائلا إنه "يجلب معه أفكاراً جديدة، ويتسم بالتفاني في العمل، ويتمتع بخلفية رائعة لقيادة الوكالة". ويومئذ كان شاه الذي لا يتجاوز عمره السادسة والثلاثين، يشغل منصب وكيل وزارة الزراعة الأميركية للأبحاث والتعليم والاقتصاد، وكان يدير منظومة يعمل بها أكثر من 10 آلاف موظف في أنحاء العالم، بينهم 2200 عالم تابع للحكومة الفيدرالية؛ وكان يشرف على هيئة الأبحاث الزراعية، وهيئة الأبحاث الاقتصادية، والهيئة القومية للإحصاءات الزراعية، والمعهد القومي للأغذية والزراعة الذي أنشأه كمعهد علمي متخصص يعنى بتحسين وتعزيز الأبحاث الزراعية وبإيجاد إنتاج غذائي مستديم، وسعياً لعلاج مشكلات تغير المناخ، وموضوعات الطاقة الإحيائية. كما ترأس شاه مشاركة الوزارة في مباراة أوباما الرامية لتأمين الغذاء على مستوى العالم، وأطلق شراكات مثمرة مع مؤسسات تابعة للقطاع الخاص والأمم المتحدة والبنك الدولي وحكومات مختلفة في أنحاء العالم... حيث كان صوتاً فاعلا في القضايا المتصلة بالأمن الغذائي وتحديات الجوع. وقبل انضمامه إلى حكومة أوباما، عمل شاه في "مؤسسة بيل وميلندا غيتس" الخيرية، وقد تنقل فيها بين عدة أدوار قيادية، فتولى إدارة التنمية الزراعية، وكان أول مدير للخدمات المالية للفقراء بالمؤسسة، وأشرف على برامج بمليارات الدولارات في سياق المساعدة الرامية لدعم الاقتصادات الريفية في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية. وقبل ذلك عمل عضواً في لجنة الصحة بمكتب حاكم ولاية بنسلفانيا، "إد رندل"، وشارك في وضع الأسس التحليلية لنظم الرعاية الصحية على مستوى الولاية، كما عمل في منظمة الصحة العالمية، وشارك في تأسيس مشروع "إمبركات" للأميركيين المتحدرين من دول جنوب آسيا. وقد ولد راجيف شاه لأبوين مسلمين من الهنود المهاجرين الذين استقروا في مدينة "آن أربور" بولاية ميتشيجان، عام 1973، حيث تلقى تعليمه في مدارس الولاية، وتخرج من كلية الطب بجامعة بنسلفانيا، ثم نال شهادتي الماجستير والدكتوراه في اقتصاديات الرعاية الصحية من كلية "وارتن" للأعمال والتجارة. كما حصل على شهادتين في الاقتصاد من جامعة ميتشيجان وكلية لندن للاقتصاد. وخلال الأعوام العشرة الأخيرة، برهن الطبيب السابق والخبير الاقتصادي الدكتور راجيف شاه على نشاطه الهائل في خدمة المجتمع وشرائحه الفقيرة، وعمل عن كثب مع أهم المؤسسات الحكومية مثل الكونغرس ووزارة الخارجية والبيت الأبيض ومجتمع التنمية الدولية، في مجالات تتراوح بين شؤون الصحة والتغذية والطاقة البيولوجية وتغير المناخ. وإلى ذلك فإن لراجيف شاه نشاطه السياسي البارز، كونه عضوا في الحزب الديمقراطي الحاكم، وقد تولى ملف الرعاية الصحية خلال الحملة الانتخابية للمرشح الديمقراطي آل غور عام 2000، وكان مؤيداً نشطاً لحملة أوباما عام 2008. وعلى خلفيته المهنية الثرية، أقر الكونغرس تعيينه ليصبح ثاني مسلم يتقلد منصباً رفيعاً في الإدارة الحالية، بعد المصرية "داليا مجاهد" المستشارة بالبيت الأبيض، وقد أشاد أوباما بكفاءته ومؤهلاته، وأثنت عليه هيلاري قائلة إنه "رائد في مجتمع التنمية ومدير مبدع، ويفهم أهمية تزويد الناس في مختلف أنحاء العالم بالأدوات التي يحتاجونها كي ينتشلوا أنفسهم من براثن الفقر". وتعهدت هيلاري، والتي تعمل الوكالة تحت إشراف وزارتها، بأن يكون لراجيف شاه "مقعد على الطاولة" في زيادة تمويل الوكالة، وقالت: "سنعمل معاً على أن تصبح الوكالة الأميركية للتنمية الدولية مجدداً أعظم وكالة للتنمية في العالم". وتعتبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية أداة مهمة للسياسة الخارجية الأميركية، فمنذ إنشائها عام 1961، كوكالة حكومية مستقلة، اهتمت بالإسهام في تحقيق أهداف السياسة الخارجية لواشنطن، وذلك من خلال دعم النمو الاقتصادي في مجالات الزراعة والتجارة والبنية التحتية، وتعزيز الصحة العامة في كافة أنحاء العالم، وتشجيع الديمقراطية ومنع الصراعات وتقديم المعونات الإنسانية. وتقدم الوكالة مساعداتها في خمس مناطق بالعالم، بينها منطقة الشرق الأوسط، وتدير برامج في ستة بلدان عربية هي مصر وفلسطين ولبنان والمغرب والأردن والعراق. وتتضاعف أهمية عمل الوكالة في المرحلة الحالية حيث يحاول أوباما تحسين وإعادة ترميم صورة الولايات المتحدة في العالم، من خلال الاهتمام بقضايا الفقر والجوع والتنمية المستدامة. ولأهمية دورها في حشد الدعم الدولي للسياسات الأميركية، فقد قال منتقدون إن تأخر الإعلان عن تعيين رئيس للوكالة طيلة عشرة أشهر الماضية، أعاق عملها في أفغانستان وأماكن أخرى، حيث طغت وكالات حكومية وغير حكومية أقل التصاقاً بتوجهات الخارجية الأميركية. ومع ذلك فإن أوباما يهدف إلى مضاعفة إجمالي تمويل الوكالة ليصل الى 52 مليار دولار في إطار مراجعة تجري كل أربع سنوات للدبلوماسية وسياسات العون الخارجي يتوقع أن تثمر نتائجها أواسط العام المقبل. وبذلك يكون الدكتور شاه قد تولى منصبه الجديد في وقت تخطط فيه واشنطن لزيادة كبيرة في الدعم الأميركي الدولي، سعياً لتحسين صورة الدولة الأعظم في أعين فقراء العالم، ولتسهيل الوصول بسياساتها الخارجية إلى عتبة التحقق... أي العمل ككاسحة ثلوج دبلوماسية على طريق زادته سنوات بوش وعورة، وهي مهمة تظل شاقة وعسيرة، وتزيد العبء على كاهل الوكالة، ولو توفرت لها تمويلات إضافية ومضاعفة، ورئيس جديد في حيوية شاه وذكائه وخبرته! محمد ولد المنى