"المفتي العالمي: ظاهرة يوسف القرضاوي" أوThe Global Mufti: The Phenomenon of Yusuf Al-Qaradwi هو عنوان كتاب صدر حديثاً في لندن، وشارك فيه عدد من الكُتاب العرب والغربيين. يتناول الكتاب رمزية القرضاوي، خلفيته الدينية والأكاديمية، نشاطاته المختلفة على مستوى العالم الإسلامي والعالم، رئاسته للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، ولمجالس الإفتاء الأوروبي، ثم فعاليته الإعلامية ، أو رعايته لمواقع إلكترونية. ثم تزعمه الحملات ضد ما رآه عدم تسامح غربي مثل قضية الحجاب في فرنسا، أو خطاب البابا بنديكتس الشهير وإشارته للإسلام، أو الرسوم الكرتونية في الدانمرك. والكتاب بمجمله تقريظي. وعلى أهمية بعض المساهمات في الكتاب إلا أنه غير دقيق من ناحية موضوعية وعلمية. هناك سطحية في تناول جوانب مهمة من خطاب القرضاوي، وتسرع في الوصول إلى خلاصات. والخطأ المنهجي الدائم في تقييم القرضاوي، ولنا الحق هنا في تحليله ونقده بكونه شخصية عامة ومؤثرة، تكمن في مقارنته دوماً بمن هم أكثر منه تشدداً وتعصباً من عتاة الفكر السلفي. فمن الطبيعي هنا أن يبدو متسامحاً بل ومتساهلا أحياناً عندما يكون ذلك مستوى التحليل: أي متسامح سلفياً. ويترتب على هذا الخطأ المنهجي خطأ آخر هو توسيع هذه النظرة التقيميية ليتم تطبيقها على مستوى العلاقة مع العالم بأسره: أي أن القرضاوي يُصبح مُتسامحاً عالمياً، وهو ما نقدمه للعالم دليلاً على تسامح الإسلام! وهذا يُفسر التناقض الكبير الذي يقع فيه كثيرون من أنصار القرضاوي. أهم الاختبارات التي يُنتقد فيها القرضاوي تسامحياً تكمن في نظرته الازدرائية للآخر الديني، وتجلت أكثر من مرة في كتاباته وتصريحاته وخطبه وتعليقاته بشأن المسيحية والمسيحيين وأخيراً الاحتفال بأعياد الميلاد في البلدان الإسلامية. هذا في نفس الوقت الذي يُطالب فيه الغرب والغربيين بإظهار الاحترام والتسامح إزاء الإسلام والمسلمين والأعياد الإسلامية، ويقود حملات الهجوم ضد ما يقوم به متطرفو اليمين الغربي وليس من يدعون أنهم رموز التسامح فيه. وفي خطبة جمعة في مطلع هذا الشهر هاجم القرضاوي مظاهر الاحتفالات بأعياد الميلاد في العواصم العربية والإسلامية معتبراً أنها "حرام وعيب ولا يليق"، واعتبرها دليلاً على غباء في تقليد الآخرين، وعلى جهل بما يوجبه الإسلام في هذه الظروف. وبحسب ما ورد في تغطيات الصحف فقد اعتبر أن الاحتفال بأعياد غير إسلامية معناه "أن الأمة تتنازل عن شخصيتها الإسلامية"، داعياً المسلمين للحرص على تميزهم في عاداتهم وتقاليدهم وأعيادهم. وهكذا يبرر القرضاوي، ولو بطريقة غير مباشرة، بهذا الموقف كل المواقف اليمينية والعنصرية التي يتبناها بعض الغربيين إزاء الإسلام، عندما يعتبرون المظاهر الإسلامية في المدن الغربية تهديداً للشخصية المسيحية لتلك المدن. كما يستنكر القرضاوي وجود أشجار زينة عيد الميلاد ويتساءل "في أي مجتمع نحن.. هل نحن في مجتمع مسلم أم في مجتمع نصراني؟"، وهو نفس التساؤل الذي يطرحه قادة العنصرية الغربية عندما يرون أي مظهر من المظاهر الإسلامية في بلادهم. ليس هذا وحسب بل والأمر أسوأ بكثير فالعنصرية الدينية هنا تستنكر عملياً احتفالات دينية يقوم بها مواطنون عرب مسيحيون في أوطانهم التي عاشوا فيها قروناً طويلة، وفي بعض المناطق تواجدوا هناك قبل الإسلام. إنه يريد أن يحرم شرائح واسعة من المواطنين من حقهم الشرعي والديني والدستوري في الاحتفال بأعيادهم، وهم لا يختلفون ثقافياً وحضارياً عن بقية مجتمعهم. في حين أن العنصرية الدينية في الغرب (وهي مرفوضة ولا تقل خطراً) تتوجه إلى مهاجرين جاءوا من الخارج وأصبحوا مواطنين بالتجنس، ويختلفون ثقافياً وحضارياً عن المجموع العام. ماذا يقول القرضاوي للمسيحيين العرب في لبنان ومصر وفلسطين والأردن وسوريا والعراق وغيرها، وماذا يجب أن يفعلوا؟ هل هذا هو المجتمع الإسلامي المُتسامح الذي ينادي به وفيه يتم الاعتراف بأتباع الأديان الأخرى واحترام عقائدهم وطقوسهم وأعيادهم؟ ثم يقول مُنتقداً ما يراه في قطر: "ليست هذه صورة الدوحة الإسلامية ولا قطر المسلمة التي ينتمي كل مواطنيها للدين الإسلامي". وفي الواقع هذه هي قطر الجميلة والإمارات الجميلة وعُمان الجميلة وكل المدن في الجزيرة العربية والبلدان العربية التي تمارس التسامح عملياً ومن دون ادعاءات الإسلاموية التي تريد القضاء على ما توارثته هذه المنطقة من تعايش عفوي غير مفتعل وغير مزيف. كيف يتجرأ القرضاوي على مطالبة التجار الذين يبيعون شجرة عيد الميلاد بأن يمتنعوا عن عرضها والإعلان عنها بصور تؤذي مشاعر المسلمين، في نفس الوقت الذي يستنكر على عنصريي أوروبا أقوالهم بأن بناء المآذن في بلدانهم يؤذي مشاعرهم المسيحية؟ وكيف لا يرى التناقض المذهل في موقفه الازدواجي، ويريد من الآخرين أن يقبلوا به رمزا للانفتاح والتسامح؟ وليس هذا فحسب بل إن القرضاوي في خطبته المذكورة، ومرة أخرى بحسب ما ورد في الصحف، قال إن ملايين المسلمين في أوروبا وأميركا لا يستطيعون الاحتفال برمضان والأعياد الإسلامية في وسط العواصم الغربية، كما يفعل غير المسلمين في الجزيرة العربية وفي العواصم الإسلامية. من أين يأتي القرضاوي بهذه التعميمات وكيف يقبل وهو العلامة بأن يُغفل الوقائع تماماً ويتخلى عن الإنصاف والموضوعية وقول الحق؟ ملايين المسلمين في أوروبا وأميركا يحتفلون برمضان والأعياد الإسلامية ويستمتعون بممارسة طقوس دينهم أفضل بكثير مما يحدث في بعض البلدان الإسلامية، ويتمتعون بحريات هناك لا توجد أجزاء منها في بلدانهم الأصلية، ولولا ذلك لما طاب لهم العيش في الغرب أصلا، والقرضاوي أكثر من يعرف ذلك. ولولا تلك الحريات لما كان القرضاوي نفسه يتردد على العواصم الغربية بين الفترة والفترة لترؤس اجتماعات "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" الذي لا يستطيع الاجتماع بحرية في معظم، إن لم نقل كل، العواصم العربية والإسلامية. يتجاوز القرضاوي أبسط بدهيات "الفقه" و"الفتوى" عندما ينجر إلى تعميمات وأوصاف لا ترى القضية من كل جوانبها، بل محكومة بالعاطفة والهوى وهما، كما يعرف العلامة، مقتل أي عالم وعلم! ويصير من الضروري هنا تذكيره بالنصيحة القرآنية "وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى".