أصبح موضوع البيئة أو المناخ من الموضوعات الرئيسية التي يتوجه إليها الفكر العالمي مثل موضوعات المرأة وحقوق الإنسان والديمقراطية وحقوق الأقليات والإرهاب. وهي موجات تتلوها موجات أخرى من الاهتمام. تجذب أنظار العالم وتحدد بؤر اهتمامه. يحددها المركز ويتبعه المحيط. يبدؤها الغرب، وتتبعه باقي شعوب العالم الثالث، تقليداً لا إبداعاً، وتبعية لا استقلالا. وموضوع المناخ خارج عن سيطرة البشر. يتعلق بالكون والطبيعة مثل الحرارة، والجليد، والأوزون، وأشعة الشمس. وقد عاش الإنسان منذ خلق العالم فوق هذا الكوكب وما زال دون أن ينقرض. وقد يكون الإنسان أحد مسبباته مثل إفراز بعض الغازات من المصانع وتجمعها في الطبقات العليا من الجو وتأثيرها على الغابات من نفايات الطائرات، وتسميم مياه الأنهار مثل نهر الراين من نفايات المصانع. ومع ذلك فإن شد الانتباه إلى المناخ أو حتى إلى البيئة يغفل وضع الإنسان في الأرض وهو مسؤول عنه ووضعه في السماء وهو ليس مسؤولا عنه. يضعه في المسائل الكبرى في المناخ ويترك المسائل الصغرى التي تؤثر عليه تأثيراً مباشراً في حياته اليومية في قضايا البيئة. وتختلف مشاكل البيئة من مجتمع إلى آخر. ففي المجتمع الصناعي تنشأ من نفايات المصانع ومخلفاتها وقذفها في الأنهار والبحيرات أو دفن النفايات النووية في الصحراء الأفريقية. في حين أنها في المجتمعات النامية تنشأ من روث البهائم في الطرقات، وفضلات البشر على النواصي، والصرف الصحي، وتراكم نفايات المنازل، وتفجر البالوعات والمواسير حيث تطفح المجاري في الأحياء الشعبية، والمياه الملوثة، وري الخضروات بمياه الصرف الصحي، والتدخين في الأماكن المغلقة، والبرك الراكدة، والمستنقعات المتسربة من المياه الجوفية. هناك مفاهيم بريئة ليس الإنسان مسؤولا عنها مثل المناخ وما يتعلق به من حرارة وبرودة متصلة بكوكب الأرض وقشرتها وثقوب طبقاتها الجوية. وهي التي يكثر تناولها هذه الأيام. وتشد انتباه الناس لغرابتها وإثارة الخيال في ثقافة تجعل نهاية العالم قريبة وتضاءل الكون بما فيه من طاقات استعداداً للبعث لأن العالم لم يعد قابلا لأن يسكن عليه أحد، لنهاية الشروط الموضوعية للحياة الإنسانية. وهناك مفاهيم أخرى مذنبة تخفيها الثقافة الغربية وتحيد الانتباه عنها مثل الفقر والتصحر والجوع والمرض والبطالة والهجرة والإسكان والفيضانات والعجز عن السيطرة على الكوارث الطبيعية. لقد استطاعت المجتمعات الغربية السيطرة على مشاكل بيئة الأرض وكفاية حاجاتها الأساسية فتوجهت إلى مناخ السماء. وقلدتها المجتمعات غير الغربية وهي لم تسيطر بعد على بيئة الأرض التي يمكن اعتبار الغرب مسؤولا عنها منذ العهد الاستعماري حتى الحكم الوطني الذي ورثه. فابتعد الناس عن مشاكلهم الحقيقية في الأرض متوجهين إلى المناخ في السماء وحاجاتهم الأساسية لم تتحقق. كما لم تتحقق متطلباتهم الاجتماعية والسياسية في الحرية والديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان. فما زال الناس معرضين فيها إلى الاعتقال والسجن والتعذيب دون محاكمات أو تهم. وتسودها الحروب الأهلية منافسة على السلطة، وتسيل فيها دماء الأبرياء، ويهجرون بالآلاف في الصومال والسودان واليمن. ويُعتدى على شعوبها في العراق وأفغانستان وفلسطين ممن يتحدثون عن المناخ وثقب الأوزون ويحرصون على سلامة الكرة الأرضية وهم يهددون حياة ملايين البشر عليها. إن ما يحدث على الأرض من مآسٍ إنما هو نتيجة أعمال البشر وليس نتيجة الظواهر الطبيعية وأوضاع الكون. وإلقاء المسؤولية على السماء وليس على الأرض إنما هو مساهمة في زيادة الاغتراب في الوعي القومي في ثقافة ترى أن السماء بيدها كل شيء، وتسيطر على الأرض، ولا يحدث شيء في الأرض إلا بفعل السماء وأمرها. والقوى الكبرى هي التي تحتكر السماء بعد أن احتكرت الأرض، بأقمارها الاصطناعية وصواريخها العابرة للقارات، ومحطات الفضاء وأجهزة القياس المتطورة، وقدراتها العلمية والتكنولوجية. وهي التي تحلل المعلومات، وتصدر الأحكام، وتخيف الشعوب الغفيرة وتبرئ نفسها مما يحدث على الأرض، وتجعل السماء هي المسؤولة عنه. وما أسهل مخاطبة الشعوب التقليدية بلغة السماء التي تظهر من خلال ثقافاتها الشعبية أكثر من مخاطبتها بلغة الأرض وإحصائيات الواقع في الثروة والنهب والسيطرة والاستغلال والاحتكار. ويتم ذلك كله تحت ادعاء الحداثة والتقدم العلمي، والحرص على أمان الكوكب، وتجنب مخاطر الأجرام السماوية وشهبها. ومن لا يفكر في السماء لا يستطيع أن يفهم ما يحدث في الأرض من ظواهر. وبالتالي تحل قوى السماء محل قوى الأرض في المسؤولية. ويتم القفز فوق الأولويات في التخطيط والتنمية. فخطط المحافظة على المناخ تسبق خطط المحافظة على البيئة. ويتم إدخال ذلك في برامج التعليم في المدارس والجامعات لتحديثها بدلا من الموضوعات القديمة في الجغرافيا والكيمياء والطبيعة والنبات والحيوان وطبقات الأرض. وتنتقل أيضاً إلى العلوم الإنسانية لإدخال فروع جديدة مثل فلسفة البيئة منفصلة عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وتحولا من مسؤولية الإنسان إلى مسؤولية الطبيعة، ومن اختيار الإنسان الحر إلى ضرورة الطبيعة. وأسهل وسيلة للسيطرة على الشعوب هي وقوعها في الاغتراب بكل أشكاله: الاغتراب الديني الذي قد يجعل الإنسان يفكر في العالم الآخر أكثر مما يفكر في هذا العالم، والاغتراب الثقافي الذي يجعل الإنسان في مشاكل بعيدة المنال ويترك المشاكل القريبة المباشرة التي تتعلق بحياته اليومية، والاغتراب السياسي الذي يضع مآسي السياسة على أنه ليس في الإمكان أبدع مما كان. والاغتراب الاجتماعي الذي ينزع الفرد خارج بيئته الاجتماعية ولا يجعله يفكر في الناس حكاماً ومحكومين، وكأن البشر ليسوا وسطاء بينه وبين الطبيعة، والاغتراب الأخلاقي الذي يضع مسؤولية ما يحدث من مآسٍ على قوى كونية خارج المسؤولية الإنسانية، والاغتراب الشامل الذي يفقد الإنسان حياته ووجوده ويجعله ضائعاً، لا حول له ولا قوة. يعيش وسط قوى كونية تسيطر عليه، لا يستطيع لها دفعاً. وبدلا من أن يعيش الإنسان في العالم يخشى منه ويعيش العالم فيه. وبدلا من أن يصبح الإنسان سيد الطبيعة تصبح الطبيعة سيدة عليه. وما أسهل أن يتغير جدول الأعمال. فالإسلام دين الطهارة والنظافة. وكتاب الطهارة أول باب في كتب الفقه وشرط الصلاة. إذا تحول إلى ثقافة وطنية تحسنت أوضاع الحمامات العامة وأماكن الوضوء في المساجد. وعرفت الشعوب كيفية عدم إلقاء الفضلات في الطرقات وعرفت المحافظات كيفية جمع القمامة من نواصي الطرقات بشركات النظافة الوهمية التي تضع ضريبة على كل مسكن، ساكن أو فارغ، أو بالعربة والحمار وجامع القمامة.