خلال حملته لانتخابات الرئاسة، خاض أوباما معارك ضارية مع هيلاري كلينتون حول الطريقة الأفضل للحكم؛ فجادلت هيلاري، التي قدمت نفسها كسياسية مخضرمة، بأن الكد والاجتهاد والتفاني في العمل والتأثير في نظام العمل... كلها أمور أساسية من أجل النجاح. أما أوباما، الذي كان مرتديا عباءة "المخلص" الذي ينزل من السماء، فقد جادل بأن خطابه هو أكثر من "مجرد كلمات"، ويمثل طريقة للخروج من حالة الانسداد الحزبي السامة التي كانت قائمة بالأمس. وقبل ذلك في نيوهامبشر، قال أوباما: "إن خصمه في السباق ليس مرشحا آخر وإنما هو النزعة التشكيكية (التي لدى البعض)". كانت حجة كل من أوباما وهيلاري صريحة واضحة أحيانا، مثلما حدث حين تجادلا حول من هي الشخصية الأهم بخصوص مشروع قانون الحقوق المدنية، مارتن لوثر كينج أم ليندون جونسون؟ على كل حال كان كينج وجونسون موجودين دائما، بشكل مبطن وضمني في تعابير لغتهما الجسدية وطريقة وقوفهما أمام الجمهور ومخاطبته، وحتى في التقارير والبرامج السياسية التي قدماها. لكن أكثر ما يثير السخرية هو أن كليهما كانا على خطأ على ما يبدو؛ ذلك أن خطاب أوباما يبدو أفضل طريقة لتحقيق أجندة هيلاري، لكن أجندة هيلاري هي أسوء طريقة ممكنة لإنجاز وعد خطابات أوباما. فمن خطاب عام 2004 فصاعدا، نبذ أوباما الانقسام الحزبي؛ وسجل عددا من النقاط لصالحه مشدداً على الإحجام عن التوصيفات القدحية للخصوم السياسيين لأنها ضارة وتصرف تركيزنا عن حقيقة أننا "شعب واحد، ندين جميعنا بالولاء للعلم الأميركي وندافع عن الولايات المتحدة". وفي خطاب نصر في الانتخابات التمهيدية في يونيو، قال أوباما إنه "واثق تماما من أنه بعد أجيال من اليوم، سنكون قادرين على أن نقول لأطفالنا... إن هذه هي اللحظة التي رص فيها أبناء هذه الأمة العظيمة صفوفهم ووحدوا كلمتهم". لكن، هل يشعر أي منكم اليوم بأن الأميركيين بدؤوا يتحدون فعلا فيما بينهم؟ الواقع أن أوباما القادم من خارج واشنطن غيّر طريقة عمل واشنطن؛ وأثر في واشنطن على نحو لا يتجرأ عليه إلا شخص قدم من خارجها لا يقيم كبير وزن للمكان. ولنتأمل هنا أولى أولوياته الداخلية: إصلاح نظام الرعاية الصحية. فبعد عام من العمل على هذا الإصلاح، تشعر قاعدة أوباما التقدمية اليوم؛ إما بخيبة أمل كبيرة أو بالغضب العارم. أما خصومه الجمهوريون والمحافظون، فليسوا غاضبين فحسب، وإنما يزدادون جرأة. هذا في حين أخذ المستقلون الذين بدؤوا يتخلون عن الديمقراطيين في استطلاعات الرأي العام والانتخابات، أخذوا يشعرون بالاشمئزاز من كل ما يجري. ولعل الأهم من ذلك كله هو أن إدارةً كانت تفاخر في يوم من الأيام بقاعدة شعبية صلبة، باتت اليوم عاجزة حتى عن الزعم بأن الأميركيين يحبون ما تقوم به! والحقيقة أن لمشروع القانون أنصاره: خبراء العاصمة واشنطن، ومبرمو الصفقات في الكونجرس، وقطاع الصيدلة، وشركات التأمين... إلا أنه وفق النموذج الكلينتوني للحكم، سيشكل استثمار سيناتور ولاية نبراسكا الديمقراطي "بن نيلسون" لاعتراضاته على مشروع قانون مجلس الشيوخ وتحويلها إلى مكاسب غير متوقعة لولايته، واستثمار سيناتور ولاية فيرمونت لمبادئه الاشتراكية مقابل المليارات في صفقات خاصة... تطورات دراماتيكية في قصة تقليدية لاستعمال الضغوط الشخصية والسياسية على طريقة ليندون جونسون. غير أن الوسائل الكلينتونية لا تستطيع أن تخدم الأهداف الأوبامية. فخلال العام الأخير، استخف حزب أوباما بكل شيء كان من المفترض أن يرمز إليه أوباما ويدافع عنه. بل إن النبرة ازدادت سوءا عندما أمضى المسؤولون المكلفون بالاتصال في إدارته السنة في شيطنة راش ليمبو وجلين بيك وقناة "فوكس نيوز". وفي هذه الأثناء، لم تتوان رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي وزعيم الأغلبية ستيني هوير عن وصف المناوئين لمقترحاتهما الخاصة بنظام الرعاية الصحية بأنهم "غير أميركيين". وخلال عطلة نهاية الأسبوع فقط، شدد شيلدون وايتهاوس، من ولاية رود آيلند، على أن المعارضة في مجلس الشيوخ تحركها جزئيا "مجموعة دعم آرية". والواقع أنه أينما ولى المرء وجهه، يجد أن "شريحة اللحم لا تتناسب والصوت الصادر عن القلي". فقد فاز أوباما بجائزة نوبل للسلام في وقت أرسل فيه (في قرار صائب) مزيدا من الرجال إلى الحرب. كما أنه وعد بأن مستويات المحيطات ستتوقف عن الارتفاع، لكنه لم يحصل على شيء ملزِم في كوبنهاجن. وخلال الخطاب الذي ألقاه حول نظام الرعاية الصحية في الكونجرس في سبتمبر الماضي، قال أوباما: "إنني لست أول رئيس يتولى قضية إصلاح الرعاية الصحية، لكنني مصمم على أن أكون الأخير". غير أن تلك مجرد كلمات، والجميع يعلم ذلك، بمن فيهم أوباما نفسه، وذلك لأن الأسس الوحيدة لدعم مشروع القانون، حسب التقدميين، هي أنه يمثل "خطوة أولى" أو "منزلا" سيواصلون بناءه على مدى سنوات قادمة، بل أجيال. بعبارة أخرى، إن النقاش حول الرعاية الصحية ليس من المنتظر ألا ينتهي فحسب، وإنما سيزداد احتداما على المدى المنظور. والآن إليكم الخلاصة: إن جرأة أوباما الخطابية تولد نزعة تشكيكية لأن الطوباوية قصيرة دائما. والواقع أن انتصارات كثيرة في انتظار أوباما، ولكن قضيته خُسرت منذ فترة. جونا جولدبرج محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"