وضع الرئيسان الروسي والصيني فلاديمير بوتين و"وين جياباو" إطاراً جديداً للتعاون بين الاتحاد الروسي والصين. ويقوم الإطار الجديد على قاعدتين أساسيتين: القاعدة الأولى هي الطاقة. وبموجب ذلك تعهدت روسيا بتصدير 70 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً إلى الصين. ويتطلّب الالتزام بهذا التعهد مد خطّين جديدين للأنابيب من سيبيريا إلى الصين. وبالفعل بدأ العمل بهذا المشروع، وقدمت الصين قرضاً بقيمة 25 مليار دولار إلى الشركة الروسية التي تتولى تنفيذه. ومع قيام الخطين الجديدين المتجهين نحو الشرق، هناك خطان آخران يعملان منذ سنوات ويتجهان نحو الغرب إلى أوروبا. وتبلغ قيمة الغاز الروسي- السيبيري المصدّر إلى أوروبا 184 مليار دولار سنوياً. وقد بدأ العمل بمدّ خط جديد يمتد من سيبيريا عبر البلطيق إلى ألمانيا (متجنباً المرور ببولندا أو أي من دول البلطيق الثلاث التي تتسم علاقاتها بالكريملن بالتوتر والاضطراب السياسيين). أما القاعدة الثانية للتعاون الروسي- الصيني فهي التجارة البينية. فقد قرّرت الدولتان رفع قيمة التبادل التجاري إلى مستويات قياسية. ومن المعروف أن الاقتصاد الصيني هو الأسرع نمواً في العالم. وهو يتطلع اليوم إلى المزيد من الطاقة التي ستوفرها له روسيا، وإلى المزيد من الأسواق الاستهلاكية في دول آسيا الوسطى. وتتطلّع الصين التي يرتفع حجم استهلاكها من النفط بنسبة 5 في المئة سنوياً إلى نفط حوض بحر قزوين الذي يعتقد أن حجم المخزون النفطي فيه يصل إلى 4.2 مليار برميل. وفي ضوء هذا الإطار الجديد للعلاقات الروسية- الصينية ترتسم علامات استفهام كبيرة حول موقف الولايات المتحدة التي تعتبر نفسها من خلال شركاتها المستثمر الأول للنفط والغاز في القوقاز وفي الشرق الأوسط؛ وحول موقف الاتحاد الأوروبي الذي يعتبر نفسه المستورد الأول للنفط والغاز الروسي والقوقازي والشرق أوسطي على حدّ سواء. ثم إن الدول المنتجة ليست "بقرة حلوباً" تنتج ولا تعرف ماذا يحلّ بإنتاجها. إنها معنية بالبعد الاستراتيجي لما تنتجه وليس بالبعد التسعيري والتسويقي فقط. ولعل في خريطة الأنابيب من حقول الإنتاج إلى مرافئ التصدير أو إلى الدول المستهلكة بعض الإجابة على هذه التساؤلات. الحال أن موسكو تمارس ضغوطاً سياسية وأمنية لاعتماد خط الأنابيب من باكو -عاصمة أذربيجان- بحيث يتجه شمالاً إلى مرفأ نفورويسيك على البحر الأسود. ويمرّ هذا الخط في داغستان والشيشان. وهذا ما يفسر الحرص الروسي على استمرار الهيمنة على المنطقتين الإسلاميتين أو على الأقل المحافظة على علاقات تعاون وطيدة معهما. كما يفسر العنف الشديد الذي استخدمه الجيش الروسي لإسقاط الحركة الانفصالية الشيشانية بقيادة الجنرال السابق دوداييف. كانت روسيا قد مدّت جزءاً من هذا الخط في السابق، إلا أنه يحتاج إلى إصلاح وتطوير. وتبلغ نفقات مشروع هذا الخط حوالي 500 مليون دولار. وفي الاتجاه المعاكس تضغط تركيا لمدّ خط أنابيب ينطلق من باكو ويتجه غرباً عبر جورجيا قبل أن ينقسم إلى قسمين: الأول يتوجه إلى مرفأ سوبسا الجورجي على البحر الأسود، ويتوجه الثاني إلى مرفأ جيهان التركي على البحر المتوسط. وتبلغ تكاليفه حوالي 200 مليون دولار. إلا أن الأزمة الروسية- الجورجية والحرب التي انفجرت بين البلدين في العام الماضي عطّلت هذا المشروع. وباعتراف روسيا بكل من أوسيتيا الشمالية وأبخازيا، لم تعد ثمة إمكانية لتفاهم روسي -تركي -جورجي مع أذربيجان حول هذا المشروع. ويحرص الروس على أن يكون خط أنابيب باكو- نوفوريسيك خطاً وحيداً لنقل نفط أذربيجان لأسباب سياسية واقتصادية معاً. على رأس الأسباب السياسية فرض الهيمنة الروسية على دول القوقاز والإبقاء على ربط مصالحها الاقتصادية بالقرار السياسي الروسي. وعلى رأس الأسباب الاقتصادية حرص روسيا على الحصول على عائدات مرور النفط الأذري الذي ينتظر أن يصل إلى 700 ألف برميل يومياً والذي تبلغ قيمته بسعر اليوم حوالي 4.2 مليار دولار في السنة. وفي إطار الضغط الروسي على الحكومة الأذرية أقفلت روسيا لفترة طويلة خط الأنابيب الذي يمرّ عبر أراضيها بحجة أنه بحاجة إلى ترميم، وامتنعت عن بيع أذربيجان أجهزة ومعدات لاستخراج النفط من بحر قزوين وحتى لتشغيل مصافي التكرير القائمة فيها حالياً. وذهبت روسيا حتى إلى إقفال الطرق أمام استيراد هذه المعدات من الخارج.. وقد أدّت هذه الضغوط إلى إقناع أذربيجان بأنه لا يمكن إلا التفاهم مع موسكو. وهكذا كان. أما الشركات الأميركية التي تسيطر على كونسورتيوم استثمار نفط أذربيجان في بحر قزوين فتجد أن لها مصلحة في مدّ خطّين للنفط واحد شمالاً عبر روسيا، والثاني شرقاً عبر جورجيا وتركيا. فالنفط الأذري غزير بحيث يمكن تشغيل الخطين معاً. ومن هنا كان الصراع الأميركي- الروسي حول جورجيا والذي دفعت هذه الأخيرة ثمنه في عهد بوش غالياً جداً. فقد اعتمدت على الدعم الأميركي ولكن عندما تحركت روسيا عسكرياً لم تقدم لها الولايات المتحدة سوى كلمات التأييد. فخسرت ليس فقط ولاء مقاطعتين كبيرتين هما أبخازيا وأوسيتيا، بل خسرت كذلك خط الأنابيب! وهذا ما حدث أيضاً مع بولندا وتشيكيا. فقد اعتقدت الدولتان أن انضمامهما إلى الحلف الأطلسي والاتحاد الأوروبي وقبولهما عرض واشنطن إقامة درع الصواريخ المضادة للصواريخ في أراضيهما، يوفران لهما الدعم المادي والمعنوي. فاستعدتا بذلك روسيا التي غيّرت خريطة خط النفط والغاز ليتجنب المرور في أي منهما وهو في طريقه إلى ألمانيا. وعلى رغم أن ذلك أدى إلى زيادة في التكاليف، إلا أنه حرّر موسكو من الابتزاز السياسي، ووجّه ضربات انتقام موجعة للاقتصادين البولندي والتشيكي. والآن، وبعد أن تخلّت إدارة أوباما عن مشروع الدرع الصاروخية، اكتشفت الدولتان أنهما خسرتا الثقة الروسية، وخسرتا مرور الأنابيب في أراضيهما، مما يحرمهما من عائدات المرور.. ومن استيراد النفط والغاز الروسيين اللذين يحتاجان إليهما. ومن هنا فإن العالم العربي المنتج الأول للنفط والغاز معني بدراسة هذه التطورات واستخراج الدروس والعبر منها.. حتى لا يقع فريسة الصراع المحتدم والذي يزداد شدة بين الدول العطشى لموارد الطاقة.