قد ينال تحليل بعض الأسس الاقتصادية والاجتماعية للديمقراطية من هيبتها كأسلوب للحكم ثبتت أهميته، لكنه لا يقلل أبداً من أنها هي الطريقة الأكثر رقيّاً -حتى الآن- في إدارة المجتمع، والتي توصل إليها البشر بعد تجارب عميقة وكفاح طويل في سبيل تأكيد حريتهم وكرامتهم، أي أنها "العقد الاجتماعي" بين الحاكم والمحكومين في أحدث صوره. وهذا العقد قابل للتطوير، بما يجعله أكثر نزاهة وعدلا، وأكثر انتصاراً للمجتمع في مواجهة السلطة، أو بالأحرى يضمن للجماعة آليات وإجراءات أعظم قدرة على تقويم أداء الحكومة. ومن هنا فإن هناك في الغرب من يطالب بتطوير الديمقراطية بما يحقق هذه الغايات. وهذه المطالبة تنصب أساساً على إيجاد فرص متكافئة حقيقية تمنع اختطاف الديمقراطية بما يجعلها مجرد حكم النخبة أو الفئة القابضة، أو ما يجعل المشاركة السياسية عملا هامشياً، خاصة في ظل إحصاءات تشير إلى أن الذين يذهبون إلى صناديق الاقتراع ليسوا كل من لهم حق التصويت، وأن من يتقدمون بترشيح أنفسهم لإدارة شؤون البلاد ليسوا الأفضل والأجدر في كل الأحوال، وأن تنفيذ السياسة لا يكون بالضرورة مطابقاً للبرامج الانتخابية، وأنه ليس كل ما يوعد به المرشحون يتم إنجازه، ولا تتصرف الحكومة بعد انتخابها على أنها مجرد خادم مطيع للشعب الذي أتى بها. وفي هذا السياق ظهرت العديد من الدراسات التي تنتقد أداء الديمقراطية الغربية، ولم تكتف بتقييم الأسس والمنطلقات النظرية للديمقراطية، بل استخدمت المناهج والأدوات الميدانية في تحليلاتها، وتابعت الدور التاريخي الذي تلعبه المصالح المادية الضيقة في إيجاد المبادرة السياسية وإدارة عمليات السياسة، والدور الذي يلعبه المال في الحملات الانتخابية، والتأثيرات السلبية التي يتركها، وكيفية تلافيها، أو التقليل من مثالبها. هذا الأمر بقدر ما يوفر حجة لإعادة النظر في المقولة التي روج لها الباحث الأميركي فرانسيس فوكوياما واعتبر فيها أن الليبرالية الغربية هي "نهاية التاريخ وخاتم البشر"، فإنه يؤكد أن التفاوت بين بعض مجتمعات العالم الثالث والمجتمعات الغربية في "الأداء السياسي" قد يزداد هوة. ففي الوقت الذي تحاول فيه الأولى أن تخلق نمطاً من الديمقراطية المظهرية بما ينأى بها عن تغير سياسي حقيقي يفكك العديد من الروابط التسلطية والقمعية نجد أن الثانية تناقش إمكانية الانتقال إلى طور أكثر ارتقاء من الديمقراطية، أي أن يتم تجديد الأفكار والممارسة السياسية بما يمكن من التغلب على بعض النواقص التي تشوب الحكم الديمقراطي في صورته الراهنة. وبالطبع فإنه في مثل هذه الحالة لا تطالب النخب الفكرية في الدول العربية بديمقراطية من الطور الذي سترتقيه الديمقراطية الغربية، بل تسعى إلى الحد المناسب من الديمقراطية، أي انتخابات نزيهة وحرية تعبير وقدرة على مساءلة السلطة. أما الحديث عن "تكافؤ الفرص الاقتصادية وتوزيع الموارد السياسية" فيبدو أمراً "طوباوياً" في ظل نظام حكم تسلطي أو شمولي، ويصبح إجراء قريب المنال بالنسبة لنظم ديمقراطية عريقة. ويقوم هذا المنطق على أن الديمقراطية تطبق بتدرجية، ليس لأنها تشكل خطراً يهدد أحداً، ولكن لأن القائمين على الأمر السياسي في الدول غير الديمقراطية لن يفرطوا بسهولة في تمتعهم بمناصب مطلقة. ومن ثم فإن استدراج هؤلاء ليطبقوا خطوات متلاحقة حيال الانفتاح السياسي يبدو هو الحل المتاح في ظل غياب الحلول المفترضة، التي تقوم على التغيير من أسفل وليس التغيير من أعلى. وفي المقابل هناك من ينادي بـ"حرق المراحل"، أي سد الفجوة في الأداء السياسي بين الدول المتقدمة سياسياً والدول المتخلفة في المضمار ذاته، فوراً ودون تردد. واعتراف بعض المفكرين الغربيين بأن "الديمقراطية" المطبقة حالياً، ليست نظاماً كاملا أو ليست نهاية لتاريخ الممارسة والتجريب السياسي، يفتح الباب أمام الآخرين ليتحدثوا عن إبداع سياسي خاص، شريطة ألا يتم استغلال هذا الحق أو تلك الرخصة في ارتكاب الاستبداد بدعوى أن شعوباً لا تصلح إلا أن تحكم بهذه الطريقة، أو أنها لم تنضج بعد كي يطبق فيها النظام الديمقراطي، أو أن الأخير قد يؤثر سلباً على مصالح أمنية حيوية. أو أن هناك ضرورات اجتماعية مزعومة تفرض الالتفات أولا إلى التنمية الاقتصادية وتأجيل ملف التعددية السياسية. فالإبداع السياسي يجب أن يكون صعوداً لأعلى في اتجاه إيجاد النظام الأكثر قدرة على الحفاظ على كرامة الإنسان وصون حقوقه ومصالحه وضمان مستقبله، وليس انحداراً لأسفل في اتجاه تكريس التسلط والبخس من مكانة الإنسان وهضم حقوقه لحساب سلطة مستبدة. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا المضمار هو: أيهما أحق بالاتباع الآن، وفي مثل حالنا الراهن: التدرج أم حرق المراحل؟ وما يبدو للوهلة الأولى أن السلطة السياسية في بعض دول العالم الثالث، ترى في التدرج الطريقة المثلى، بينما تنحاز الجماهير الغفيرة إلى النقيض، مطالبة بحرق المراحل، باعتباره الوسيلة الأسرع والأنجع في تحصيل الإصلاح، بعد طول انتظار. والرؤية الأولى يتوهم أصحابها أن الشعوب قاصرة، وتحتاج إلى رعاية وتربية طويلة، حتى تتأهل للحكم الديمقراطي، أما الثانية فيوقن معتنقوها بأن الناس قد وصلوا إلى حال من النضج يكفي تماماً لأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم. وبالطبع فإن القلة التي تتذرع بالتدرج في تطبيق الديمقراطية قد لا تروم إلا مصالحها الضيقة، أما الكثرة التي تبتغي حرق المراحل، فتنشد المصلحة العامة. ودون استطراد فإن العالم مليء بنماذج لدول دخلت إلى الديمقراطية من أوسع الأبواب، وفي زمن يسير، دون أن تصعد إليها درجة درجة، فأنجزت نظماً سياسية ناجحة في شتى الصعد، كما سبق الذكر، على رغم أنها قبل ذلك بسنوات قليلة، وربما بشهور، كانت ترزح تحت نير الاستبداد. وتطل هنا برأسها أنظمة عدة في جنوب شرق آسيا، وأفريقيا جنوب الصحراء، إذ قطعت دول المنطقتين أشواطاً ملموسة في السنوات الأخيرة على درب الديمقراطية. ومما يدحض التذرع بعدم نضج الجماعة لتقبل الديمقراطية -وهي الذريعة التي يبرر من يطرحونها فكرة التدرج في الإصلاح السياسي- أن الاجتهادات العديدة داخل نمط الحكم الديمقراطي تتيح، بيسر شديد، تطبيق إحداها في أي مجتمع، دون الارتكان إلى وهم الظروف الخاصة، أو الخصوصية المجتمعية والثقافية، واتخاذها حجر عثرة دون دخول أنظمة حكم عربية عديدة إلى فضاء الديمقراطية الفسيح، والذي هو، دون شك، الدرب الأمثل للخروج من البؤس السياسي والفكري العربي الراهن.