منذ عقد الثمانينيات، أدت الاختراقات الطبية المتعلقة بأسلوب علاج العقم، المعروف بالإخصاب الخارجي أو أطفال الأنابيب، إلى ظهور مجال جديد في الطب الحديث، يعرف بفحص الأجنة قبل الحمل. ويعتمد هذا الأسلوب في أساسه على فحص الجنين في الأيام الأولى وربما الساعات الأولى من حياته، وهو لا زال في طبق المعمل قبل نقله إلى رحم الأم، وحتى أحياناً ما تفحص البويضة أو الحيوانات المنوية قبل التلقيح من الأساس. وكما هو واضح فإن استخدام هذا الأسلوب لم يكن ممكناً قبل اكتشاف وتطوير الطريقة التي يمكن بها تخصيب البويضة خارج الرحم، ونزع بعض الخلايا من الجنين المتكون لغرض فحصها، قبل نقله وزراعته في رحم الأم، وهو كما ذكرنا تدبير قد تحقق أولا من خلال الاختراقات المتعلقة بالإخصاب الخارجي. ويندرج فحص الأجنة قبل الحمل ضمن نوعية من الفحوص تعرف بفحوص ما قبل الولادة، مثل الفحص بالموجات الصوتية أثناء الحمل وهو شائع الاستخدام، أو فحص عينة من السائل المحيط بالجنين داخل الرحم، أو فحص خلايا المشيمة، أو بعض فحوص الدم، وغيرها. وتهدف هذه الفحوص جميعها إلى الكشف عن وجود أية عيوب خلقية، أو تشريحية، أو وراثية في الجنين، مثل الشفة الأرنبية، أو أنيميا الخلايا المنجلية، أو الثلاسيميا، أو التليف الحوصلي، وغير ذلك من الأمراض. وبناء على نتائج هذه الفحوص، وحسب نوع المرض المصاب به الجنين، وشدته، يتم اتخاذ القرار بالإجهاض، أو بإكمال الحمل مع ضرورة الولادة في مستشفى عالي التخصص، حتى يتم تقديم الدعم والرعاية اللازمين للأم ومولودها الجديد. وهذه الفحوص جميعها، باستثناء الفحص بالموجات الصوتية، لا تجرى بشكل روتيني لما تحمله في طياتها من خطر على الأم وعلى الجنين، وتقتصر فقط على الحالات التي يكون في خلفيتها سبب طبي قوي، يدعو الأطباء للشك في احتمال إصابة الجنين بأحد الأمراض سابقة الذكر. وبخلاف الخطورة على الأم والجنين، كانت هذه الفحوص جميعها تحمل أيضاً في طياتها مشكلة أخرى إذا ما أتت نتائجها إيجابية وأثبتت وجود المرض أو العيب الوراثي في الجنين، وهي ضرورة اتخاذ القرار بإجهاض الجنين إذا ما رغب الوالدان. ومثل هذا القرار كان ولا زال يشكل صدمة نفسية للأبوين، بعد الفرحة الأولية بالحمل، وارتباط الأم الغريزي بالحياة الجديدة التي بدأت تنمو في أحشائها، حتى وإن كانت حياة معيبة، مكتوب عليها المرض والمعاناة بقية عمرها. ومثل هذه المشكلة، يمكن تخطيها من خلال الفحص قبل الحمل، أي بعد التخصيب وقبل نقل الجنين إلى رحم الأم، حيث يمكن حينها التخلص من الأجنة المعيبة، والإبقاء على السليم منها فقط. ولكن إذا ما كان فحص الأجنة قبل الحمل يعفي الأم من مخاطر الفحوص الأخرى، ونجح في تجنيب الأبوين اتخاذ القرار بالإجهاض بعد شهور من الحمل، إلا أن خطورته على الجنين ظلت تحلق كسحابة سوداء فوق التقييم العام لأمن وسلامة هذا الأسلوب. حيث يتطلب إجراء هذا الفحص، نزع خلية من الجنين في وقت لا يزيد مجمل جسده فيه عن بضع خلايا عددها أقل من عدد أصابع اليد أحياناً. وهو ما ألقى دائماً بسؤال حول مدى الضرر الذي يتعرض له الجنين، وتأثير هذا الإجراء على صحته المستقبلية؟ وربما حتى على قدرته على إكمال فترة الحمل؟ غير أن هذه الأسئلة جميعها أجابت عنها -إلى حد كبير- بداية هذا الأسبوع، دراسة أجراها مجموعة من العلماء بمركز الجينات الطبية في المستشفى الجامعي بالعاصمة البلجيكية بروكسل، ونشرت نتائجها في إحدى الدوريات الطبية المرموقة والمتخصصة في الإنجاب البشري. وخلاصة هذه الدراسة هي أن فحص الجنين قبل الحمل آمن للأحوال التي تتم فيها زراعة جنين واحد، حيث لم يوجد فارق في معدلات الوفيات أو الإصابات بعيوب خلقية بين الأجنة التي خضعت لهذا الفحص، وبين الأجنة التي لم تخضع له. وتوصل العلماء إلى هذه النتيجة من خلال مقارنة معدلات الوفيات والعيوب الخلقية لـ581 جنيناً خضعوا للفحص على مدار ثلاثة عشر عاماً، وبين معدلاتها في 2889 جنيناً خصبوا أيضاً خارج الرحم، ولم يخضعوا للفحص. وإن كان العلماء قد لاحظوا ارتفاعاً واضحاً في معدلات الوفيات، إذا ما تمت زراعة أكثر من جنين في رحم الأم بعد الانتهاء من الإخصاب الخارجي. ففي هذه الحالة، أو الحمل بتوائم، كانت نسبة الوفيات بين الأجنة الذين لم يخضعوا للفحص مجرد 3 في المئة، وهي النسبة التي ارتفعت إلى 12 في المئة تقريباً لدى الأجنة الذين خضعوا للفحص، أي بفارق أربعة أضعاف المعدلات الطبيعية تقريباً. وقد عجز العلماء القائمون على الدراسة حتى الآن عن تفسير سبب هذا الفارق الهائل في حالة حمل التوائم، وعدم وجود فارق يذكر في حالة فحص وزراعة جنين واحد في رحم الأم. وإن كان تأكيد هذه النتائج برمتها سيحتاج إلى دراسات أكبر، ولفترات أطول، كي يقطع الشك باليقين في مدى أمن وسلامة الفحص الوراثي قبل زراعة الأجنة، في حالات الحمل الواحد، والحمل المتعدد أو التوائم. أما القضايا الأخلاقية والاجتماعية التي تترتب على هذا الفحص، مثل أطفال الكتالوجات، وتحديد جنس الجنين قبل الحمل، وشرعية إجهاض الأجنة المعيبة، وأخلاقيات التخلص من الأجنة الزائدة عن الحاجة، فستظل ولوقت غير قصير، قضايا شائكة ومرتبطة دائماً بهذا المجال الطبي الحديث. د. أكمل عبدالحكيم