يقترب باراك أوباما من إكمال عامه الأول في رئاسة الولايات المتحدة من دون إنجاز حققه أو قطع شوطا في الطريق إليه. راهن الرئيس الأميركي على إحراز تقدم في حل أحد صراعات منطقة الشرق الأوسط الأكثر اضطراباً في عالم اليوم، وأعطى أولوية متقدمة لقضيتين رئيسيتين بادر بالتحرك فيهما منذ الأسابيع الأولى، وهما أزمة البرنامج النووي الإيراني والصراع الإسرائيلي -الفلسطيني. فلم يمض شهر على دخوله البيت الأبيض حتى عين ريتشارد ميتشل المعروف بمهنيته مبعوثاً خاصاً للشرق الأوسط، وبصفة خاصة قضية فلسطين. ولم تمض أيام على تعيينه، حتى حل بالمنطقة مستمعا ومحاورا وباحثا عن الطريق المفقود إلى تسوية ما. انطلق ميتشيل من افتراض صحيح هو أن إجراء مفاوضات ناجحة يتطلب أجواء ملائمة، وأن هذه الأجواء تتحقق عبر إجراءات بناء الثقة المتبادلة، وأن هذا هو السبيل إلى تحقيق سلام وليس مجرد إطلاق عملية سلام جديدة. تجاوبت السلطة الفلسطينية مع هذا المنهج، كما بعض الدول العربية التي أبدت استعداداً للمساهمة في إجراءات بناء الثقة إذا أكدت إسرائيل جديتها هذه المرة. ولم يكن تحفظ دول عربية كبيرة على أن تشمل هذه الإجراءات تطبيعاً مبكراً في بعض المجالات، مثل السياحة والطيران المدني، مانعاً من تجاوب دول أخرى أعلن بعضها ذلك إعلامياً وإن لم يكن رسمياً. لكن رفض إسرائيل وقف الاستيطان، أو حتى تجميده، أحبط منهج أوباما الذي قام على إجراء المفاوضات في أجواء أفضل مما مضى، وبدد الجهود التي بذلها ميتشيل وانضمت إليها وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون في مرحلتها الأخيرة. لذلك يصل عام أوباما الأول في رئاسة الولايات المتحدة إلى نهايته فيما هذه القضية التي راهن على إحراز تقدم فيها مازالت "محلك سر". وقل مثل ذلك عن أزمة البرنامج النووي الإيراني، التي تبنى أوباما منهجاً مختلفاً عن ذلك الذي اتبعه سلفه تجاهها. مد أوباما يديه إلى إيران منذ يومه الأول في البيت الأبيض، بعد أن أكد خلال حملته الانتخابية أن الحوار هو السبيل إلى حل هذه الأزمة. وفاجأ الإيرانيين، كما العالم كله، برسالة ودية إليهم في "عيد النيروز" أعاد فيها تأكيد رغبته في الحوار وتقديره العميق لأمة عريقة قدمت إسهامات كبيرة في تقدم البشرية خلال مراحل عدة من تاريخها. وانعكس هذا التغيير في السياسة الأميركية على أجواء ثم قضايا المفاوضات التي تجريها الدول الكبرى (الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن + ألمانيا) مع إيران. وأثمر ذلك مشروعاً لا سابق له في مرونته لحل مشكلة تخصيب اليورانيوم الموجود بحوزة إيران، قدمته الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أكتوبر الماضي. ورغم أن هذا المشروع (مسودة اتفاق فينا) ينطوي على قبول الدول الكبرى برنامج إيران النووي في خطوطه العامة، مقابل موافقتها على تأطيره ووضع سقف له وإخضاعه لمراقبة دقيقة، فقد ماطلت طهران في الرد عليه وصدرت عنها إشارات متباينة قبل أن تحسم موقفها وترفضه ضمنياً عبر المطالبة بإجراء مفاوضات في شأنه وليس لتنفيذه. هكذا أحبطت إيران، مثلما فعلت إسرائيل، أمل أوباما في أن ينهي عامه الأول بالبيت الأبيض وقد حقق بداية تقدم في حل إحدى المشاكل الكبرى في الشرق الأوسط. لذلك حين ذهب إلى ستوكهولم لتسلم جائزة نوبل للسلام، ذهب خالي الوفاض إلا من تغيير في أجواء العالم نجح في تحقيقه ونموذج للسلام العالمي يبشر به دون أي يقين بشأنه. وبدا كما لو أن إيران وإسرائيل اللتين تقفان على طرفي نقيض "تحالفتا" ضده وتعاضدتا لعرقلة مشروعه السلمي. ولا غرابة في ذلك؛ فهما تتبعان طريقة للمناورة بالمفاوضات والمفاوضة بالمناورات. فالمتابع لسياسة كل منهما يمكن أن يلحظ تشابها مدهشاً في التعاطي مع أي جهود أو تحركات سلمية. ويصعب التأكد مما إذا كانت إيران تعلمت من إسرائيل في هذا المجال، رغم أن الأخيرة أسبق فيه زمنياً منذ مؤتمر مدريد للسلام 1991 والاتصالات والمناورات التي سبقته. غير أنه إذا صح أن إسرائيل هي الأسبق، تبدو إيران أكثر براعة في المفاوضة بالمناورات إلى حد تبدو معه وكأنها هي الأكثر تمرساً، بسبب اختلاف موقع كل منهما بالنسبة للولايات المتحدة. فالحليف الاستراتيجي يكون عادة في وضع أكثر يسراً أو أقل صعوبة في مثل هذه الحال. أما إذا كان لهذا الحليف قدرة عالية على التأثير في صنع قرار الطرف الآخر في التحالف، فهو يستطيع ضمان الذهاب في مناورته إلى آخر المدى دون أن يخشى أي عاقبة. وهذا هو وضع إسرائيل الآن، بخلاف إيران. لقد اتبعت كل من إيران وإسرائيل الطريقة نفسها مع أوباما، وإن ركزت الثانية أكثر على المناورة بالمفاوضات من أجل تجنب الجلوس إلى المائدة مع الفلسطينيين، فيما لم يكن أمام إيران إلا أن تفاوض بالمناورات لأنها لا تستطيع الانسحاب من المحادثات مع الدول الست وإلا أغلقت باب المناورة أمام نفسها. فاوضت إيران، فأعطت انطباعاً في يوم بالمرونة وفي يوم آخر بالتشدد، ووجهت رسائل متباينة، وتلاعبت بكلمات هنا وعبارات هناك، إلى أن طُرح عليها مشروع اتفاق محدد فناورت بشأنه أيضا. والملاحظ أنها لم تقل "لا" صريحة، ولم ترفض رفضاً مباشراً أو حاسما. فهي مازالت تقول إنها ترغب في مزيد من التفاوض على هذا المشروع. فإيران لا تقبل ولا ترفض صراحة، وإنما تفاوض بالمناورات. أما إسرائيل فكان بإمكانها أن تناور بالمفاوضات لكي تتجنبها دون أن ترفضها، وإنما على العكس تؤكد استعدادها لها دون شروط مسبقة، بينما ينطوي موقفها هذا على شرط جوهري يجرد أي مفاوضات من مضمونها عندما يستبعد أية مرجعية دولية لها فيصبح التفاوض هدفاً بحد ذاته. وهذه هي المناورة بالمفاوضات على أصولها، والتي ما برحت مستمرة عبر مبادرة نتنياهو بإعلان التجميد الجزئي للاستيطان لمدة عشرة أشهر وانتظار المفاوض الفلسطيني. وإمعانا في المناورة، أعلن نتنياهو أن التجميد الجزئي سينتهي في موعده حتى إذا قبلت السلطة الفلسطينية قبل شهر على موعد نهايته إجراء المفاوضات. وهكذا يبدو التفاوض بالمناورات والمناورة بالمفاوضات وجهين للعملة نفسها ومظهرين لطريقة واحدة تجمع إيران وإسرائيل، رغم كل ما يفصلهما.