استغلت المذهبية ومناسباتها في الصراع الطويل بين العثمانيين والصفويين، وكانت المواجهة بشخصيتي الإمامين جعفر الصادق (ت 148) وأبو حنيفة النَّعمان (ت 150)، بما لم يكن بين الإمامين، بل على العكس كان أبو حنيفة منحازاً لأكثر من حركة علوية: حركة عمِّ الصادق زيد بن علي (قتل 122 هـ)، وأبناء عمَّه: محمد النَّفس الزكية، وأخيه إبراهيم (قتلا 145 هـ)، لكن للسياسة وجوهاً ومقاصدَ. وعندما نقول الصفوية أو العثمانية فلا نعني سوى التاريخ، فلا يتحمل شيعة اليوم تركة الصفويين (1501 -1740) ولا أهل السُنَّة يمثلون العثمانيين. تُمر هذه الأيام ما يصطلح عليه بالحزن الشيعي، وهو حزن نبيل بحد ذاته، فيه ما فيه من التذكير بمأثرة لم يكن أهل السُنَّة بعيدين عنها، وكنت جمعت ما قدرت عليه من استذكار سُنَّة العراق للمناسبة، مما سمعته وقرأته، وجعلته في "المجتمع العراقي... تُراث التسامح والتكاره"(2008). فهناك من فقهاء السُنَّة الكبار مَنْ كتب بخصوبة خيال، وتعصب للحسين، مثلما هو الشيخ نعمان الآلوسي (ت 1899)، نجل صاحب "تفسير المعاني" أبي الثناء (ت 1854)، في فصل: «عاشوراء وقتل النَّفس المحرمة»: أن الجنَّ بكت الحسين، وأن جبرائيل عرف قبره ودلَّ رسول الله عليه، وما حفظه الآلوسي من ندبِّ نساء الجنِّ على الحسين: "أبكي قتيلاً بكربلاء... مضرج الوجه بالدماء" (غالية المواعظ). لكن ما سنذكره في مقالات قادمة أن حركة إصلاحية انطلقت من مكاتب علماء المذهب الإمامي، لتخليص المأثرة الحسينية مما عَلق بها من ممارسات فرضتها غوائل السياسة، لم يُقتل الإمام الحسين (61 هـ) من أجلها. وهنا نقتبس من أحد المؤرخين الإيرانيين، وكان قد صَنف كتابه "قصص العلماء" (1873)، أي بعد قرن من سقوط الدولة الصفوية. قال محمد بن سليمان التنكابني: "التمثيل من مخترعات الصفوية، ولما ظهر مذهب التشيع في بلاد إيران، وحكم الصفويون أمروا الذاكرين بإنشاد مصيبة سيد الشهداء (ع)، لكن الناس لم تكن تبكي. لأن المذهب لم يترسخ بعد في نفوسهم فاخترعوا التمثيل لعلَّ النَّاس تتألم من مشاهدة مصائب سيد الشهداء (ع) وترق قلوبهم، وسمي هذا العمل بالتعبئة، وهي بمعنى الاختراع أيضاً، وهذه التعبئة لم تكن موجودة في الأزمنة السابقة بالاتفاق. والعلماء مختلفون في جوازها، والأكثر على التحريم، ومن جملة القائلين بالحرمة قطب الفقهاء والجلالة والنباهة والفطانة والذكاء الشيخ جعفر النجفي" (قصص العلماء)! والمقصود هو الشيخ جعفر الكبير كاشف الغطاء (ت 1812) مؤسس الأسرة المشهورة بالنَّجف والعراق. وكان الملا محمد تقي البرغاني القزويني (13 الهجري)، المعروف بالشهيد الثالث "يمنع تمثيل حادثة كربلاء في مصيبة سيد الشهداء(ع)، وكان يمنع من الغناء في المراثي، وإنشاد مصائب الأئمة" (نفسه). وأردف التنكابني: "التعبئة (ما يتعلق بممارسات عاشوراء) في ذلك الزمان لم تكن، لا موجودة ولا مستعملة، بل لم تكن موجودة أصلاً. والذي كان موجوداً في ذلك الزمان النَّواح. والنائحون طائفة من النَّساء تنوح عند النَّساء والرَّجال تنوح عند الرَّجال، يذكرون الميت ومناقبه ومفاخره ويبَكون الحضور، ويأخذون الأجرة. كما ذكر الفقهاء المسألة في كتاب المتاجر، تحت عنوان أجرة النائحة" (نفسه). صحيح أن البويهيين قد جعلوا يوم عاشوراء يوماً رسمياً، عند حكمهم لبغداد (334 -447 هـ)، ففي السنَّة 352هـ "عاشر محرَّم أمرَ معزُّ الدولة النَّاس أن يغلقوا دكاكينهم، ويبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يظهروا النَّياحة..." (ابن الأثير، الكامل في التاريخ). وفيما بعد صار يوم عاشوراء عطلة رسمية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة (الدليل العراقي 1936). وفي زمن الجمهورية أخذت تُقرأ قصة مقتل الحسين من الإذاعة العراقية، وبصوت الخطيب عبد الزهراء الكعبي(ت 1974). لكن قبل تبنيها من قبل السلطة، كانت مأثرة الحسين يستذكرها النَّاس طواعية بإظهار الحزن بالنَّياحة شعراً وترتيلاً، وهي مطابقة إلى حدٍّ بعيد لما أورده الطبري (ت 310 هـ) في تاريخه. وتأكيداً لما تقدم يذكر القاضي أبو علي التنوخي (ت 384 هـ) قصة نائحٍ ونائحةٍ، ما يسمى في لغة اليوم: "الملا" أو "الروزخون" والملاية: كان ابن أصدق عمله النَّياحة على الحسين، فكلفه أبو القاسم التنوخي، والد أبي علي، بوصية من مربيته أن يحقق لها منامها بالسيدة فاطمة الزهراء، في ما رغبت به من النَّياحة بقصيدة على ولدها الحسين، وكان الحنابلة يمنعون ذلك، فأخذ ينوح تلك على لسان الزهراء: «أيتها العينان فيضا.. واستهلا لا تغيضا.. لم أمرضه فأسلو.. لا ولا كان مريضاً» (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة). أما النائحة فهي امرأة تدعى خِلْب «كانت ببغداد نائحة مجيدة حاذقة». وكان النوح على الحسين وليس فيه تعرضاً بالسلف...» (نفسه). أما ما أُستجد في العهد الصفوي فهو بدل اليوم الواحد من عاشوراء، العاشر، أصبح عشرة أيام، بداية من أول يوم محرم، ثم تستمر المجالس الحسينية حتى العشرين من صفر، حيث عودة رؤوس القتلى إلى كربلاء، ودخل في مراسم عاشوراء اللطم، وجلد الأبدان، واختلاق الكثير من الروايات، لزيادة الحزن وبعث البكاء، مثلما أشار صاحب "ّقصص العلماء" أعلاه. وإسماعيل الصفوي (ت 1524) كان أول مَنْ أدخل إلى الحزن الحسيني، الذي كان يجري بمراث ومدائح أدبية، "مجلس التعزية" (الوردي، لمحات اجتماعية)، و"تنظيم الاحتفال بذكرى استشهاد الحسين على النحو المبالغ فيه، الذي بقي إلى الآن" (الشيبي، الطريقة الصفوية). أبرز ما فعله إسماعيل الصفوي، المتحدر من أصل سُنَّي تركي وقيل كُردي، هو إدخال النوازع الصوفية على قضية الحسين، فالصفوية بالأصل طريقة صوفية أريد لها تشكيل دولة تواجه الدولة العثمانية عبر المواجهة بين المذهبين. والقارئ للحوادث بين الدولتين يتوهم كأن المواجهة تجري بين إمامي المذهب، وهي ليست كذلك. على أية حال، هناك مَنْ برز من علماء المذهب قلقاً على التشيع، حتى أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية منعت العام 1995 تلك الممارسات، وحينها صرح مرشد الثورة آية الله علي خامنئي ضدها قائلاً إنها "تظهر الشيعة كأنهم يعيشون الوهم، ولا يعبرون العقل أي أهمية" (النجفي، ثورة التنزيه). لقد تقبل المجتمع الإيراني منع التسوط بالسلاسل والتطبير بالقامات، وهو الذي ظل يمارسها لقرون عديدة، فمتى يصدر بالعراق، ولو ترغيب وتثقيف رسمي ضدها، لتطويق ما يؤثر منها على الذائقة العامة، وتقديم الشيعة "كأنهم يعيشون الوهم" بعينه!