في مظهر ديمقراطي رائع، يجري في لندن حاليا تحقيق علني بشأن التورط البريطاني في الحرب على العراق، وهو التورط الذي يعد أحد أكبر كوارث السياسة الخارجية في التاريخ البريطاني المعاصر. وجميع الأنظار مركزة حالياً على رئيس الوزراء السابق بلير، الذي زج ببريطانيا في الحرب إلى جانب الولايات المتحدة، وتعرضت سمعته لضرر فادح جراء تلك الحملة العسكرية التي دمرت دولة عربية كبيرة، واطلقت شياطين الطائفية من عقالها هناك، وأدت إلى مصرع وتشريد الآلاف، وهزت استقرار المنطقة ككل. والسؤال الذي يتردد الآن، هو ما إذا كانت سمعة بلير ستعاني أكثر مما عانت بالفعل؟ فهناك محاولات لإطلاق صفة "مجرم حرب" عليه، وجرجرته إلى المحاكم، بتهمة المشاركة في حرب غير مشروعة، وإرساله 45 ألف جندي بريطاني إلى العراق. وكانت الحجة التي استند إليها بلير في خوض الحرب هي أن أسلحة الدمار الشامل التي زعم أن صدام حسين يمتلكها، تشكل تهديدا وشيكا للأمن والسلم العالميين. ولكي يكسب تأييد الجمهور المتشكك في صحة هذا الزعم آنذاك، ادعى بلير أن صدام حسين يمتلك أسلحة كيماوية وبيولوجية يمكن إطلاقها خلال 45 دقيقة وهي مسألة مثيرة للفزع والرعب، وكان بلير قد أدمن تردادها في الفترة التي سبقت الغزو. والآن، اتضح أن كل تلك الحجج لا تقوم على أساس، وأنه لم تكن هناك أسلحة دمار شامل لدى النظام العراقي السابق. وهذا التحقيق الذي سُمي باسم الرجل الذي يقوم به، أي السير "جون تشيلكوت"، وهو دبلوماسي محترف وموظف حكومي كبير، سوف يغطي الفترة بين منتصف العامين 2001 و2009، لمعرفة الكيفية التي اتخذت بها الحكومة البريطانية قراراتها، والأسباب التي دعت لاتخاذها، واستخلاص الدروس من ذلك للمستقبل، وضمان عدم تكرر الأخطاء ذاتها مستقبلا. وقد بدأ "شيلكوت" تحقيقه يوم الـ24 من نوفمبر الماضي، ولن يقدم تقريرا عما يتوصل إليه إلا بعد الانتخابات العامة البريطانية القادمة والتي ستتم صيف العام المقبل. كان من المفترض أن يُمثل بلير أمام مسؤول التحقيق في مطلع العام الجديد، لكنه استبق التحقيق من خلال القول في مقابلة أجرتها معه "بي. بي. سي"، في 13 ديسمبر الحالي، إنه كان سيفضل الإطاحة بصدام حسين حتى لو لم تكن هناك أدلة على وجود أسلحة دمار شامل. وبهذه التصريحات التي أثارت ضجة كبيرة في بريطانيا، يكون بلير قد اعترف ضمنا أن إصراره السابق على التهديد الخطير الذي كانت تمثله أسلحة الدمار الشامل المزعومة التي كان يمتلكها صدام حسين، لم يكن سوى حيلة جرى تلفيقها بلا ضمير لتبرير خوض الحرب. والنقطة المهمة في هذا السياق هي أنه وبعد مرور ست سنوات على غزو العراق، أصبح الجمهور يعتقد أن لديه الفرصة أخيرا كي يعرف دوافع بلير لخوض تلك الحرب، والكيفية التي فعل بها ذلك. لكن هل سيتمكن التحقيق من استخراج كافة الحقائق المتعلقة بهذا الموضوع؟ احتمال ذلك ضعيف لأن ما يقوم به "تشيلكوت" هو تحقيق وليس محاكمة، والحقائق لن تنشر علنا إذا ما كانت تمس الأمن القومي للبلاد، أو خططها الدفاعية، أو علاقاتها الدولية. والأهم من ذلك أن نطاق اختصاص التحقيق يضمن السرية لقائمة طويلة من الموضوعات. وكانت هناك أسباب كثيرة قد قُدمت لتبرير تحالف بلير مع بوش منها: اعتقاد بلير أن علاقة بلاده الخاصة مع الولايات المتحدة كانت حيوية إلى درجة تدعوه للحرص على التمسك بهذه العلاقة والارتباط بها مهما كانت الأكلاف. ومنها أن بلير قد استساغ فكرة أن يكون جزءا من لعبة القوى العالمية الكبرى. وهناك آخرون يلمحون إلى أن بلير قد ابتلع الطُعم متمثلا في الوهم الجيوبوليتيكي الذي خلقه المحافظون الجدد، حين ادعوا أن إطاحة صدام سوف تُحرر الشرق الأوسط من تيارات القومية العربية، والإسلام الراديكالي، والجهادية الفلسطينية... وتعيد تشكيل المنطقة وفقا لمصالح الغرب وإسرائيل. هذه الأسباب يمكن أن تكون صحيحة أو صحيحة جزئياً على الأقل... غير أن الشيء الذي قلما يذكر في هذا الصدد هو القيود والمحددات التي وجد فيها بلير نفسه، والتي منعته من الابتعاد عن السياسة الأميركية، حتى إذا ما كان يريد ذلك، على النقيض من شيراك الذي عارض تلك السياسة علنا حينذاك. من أهم تلك المحددات العلاقات الدفاعية والاستخباراتية الخاصة بين بريطانيا والولايات المتحدة. فبموجب اتفاقية موقعة عام 1947 اتفق البلدان على تبادل ما لديهما من أسرار يتم جمعها من خلال التجسس، والتنصت الإلكتروني، عبر التعاون الوثيق بين أجهزة اتصالات واستخبارات البلدين. هذا ليس سوى جزء من المسألة، وهناك أجزاء أخرى منها أن الصواريخ النووية الهجومية المزودة للغواصات البريطانية أميركية الصنع.. ومنها إن شركة BAE سيستمز البريطانية المتخصصة في مجال تطوير وتوفير ودعم الأنظمة الدفاعية البرية والبحرية ترتبط باتفاقية شراكه مع شركة "لوكهيد مارتين "الأميركية الذائعة الصيت في مجال العمل في تطوير الجيل التالي من الطائرات النفاثة السريعة من طراز إف35 "مقاتلة الضربة المشتركة"، علاوة على أن التعاون قائم ومستمر بين الدولتين في العديد من المجالات الأخرى. ربما يحكم التاريخ بأن رئيس وزراء بريطاني قد رفض في لحظة حرجة من لحظات الأزمة أن يُعرّض كل تلك المصالح الحيوية للخطر من خلال رفض الانضمام للولايات المتحدة في غزو العراق، وأن ذلك على وجه التحديد ما دفعه لخوض الحرب. لكن يجب علينا في نفس الوقت أن نعتمد على تحقيق تشيلكوت، وعلى ما سيقدمه من معلومات وحقائق، ستساهم دون شك في تنويرنا بشأن كل ذلك.