لقد فاجأ أوباما العالم في خطابه الذي ألقاه بمناسبة تسلمه لجائزة نوبل للسلام بإشارته إلى فكرة الحرب العادلة، والسبب هو ما ينطوي عليه موقف الرئيس الأميركي من تناقض لا يغيب عن أنظار المراقبين، ففي الوقت الذي يتلقى أرفع جائزة للسلام في العالم، يأمر بإرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان وإن كان قرر من جهة أخرى الانسحاب من العراق وترك شؤون إدارته للعراقيين. لكن مسألة الحرب العادلة التي أشار إليها أوباما في معرض خطابه ليست وليدة اللحظة، بل ترجع إلى القديسين أغوسطين وتوماس الإيكويني اللذين حددا ثلاثة شروط أساسية تعرف معنى الحرب العادلة وتبرر اللجوء إليها، فهي أولًا يتعين أن يشنها الأمير بما يحيل إليه ذلك من سلطة المركز واحتكار الدول للعنف، وثانياً لا بد من توفر قضية عادلة تُشن من أجلها الحرب وتُعبأ لها القوات وافتراض الظلم في الطرف الآخر الذي يتعين إقدامه على فعل معين لتسويغ مواجهته بالحرب، وأخيراً يتعين للحرب أن تقودها المصلحة العامة، وألا ترتهن للمصالح الفئوية داخل الدولة، أو للمجموعة التي تشن الحرب لدفع ضرر يلحق بالجميع ويمس الأمن الجماعي للوطن، وحتى في الفترات المتأخرة لم يتوقف المفكرون عن التنظير للحرب العادلة مثل الفيلسوف "مايكل والزير"، الذي وضع في العام 1977 تعريفات للحرب العادلة كما تطرق لمسألة تناسب القوة مع الحرب وعدم الإفراط في استخدامها. لكن رغم هذه القواعد التي حاول إرساءها القدماء لتعريف الحرب العادلة يبقى الاختلاف كبيراً بين مفهوم الحرب العادلة في الماضي ومفهومها اليوم بالنظر إلى التطور الذي شهدته البشرية والتحولات الكبرى التي نعيشها، ففي العصور الغابرة التي نشأ فيها المفهوم لأول مرة، كانت تمثل فكرة الحرب العادلة تطوراً ملحوظاً قياساً إلى ما كان معمولًا به وقتها من لجوء عشوائي وغير منضبط الحرب دون توفر ما يبرر شنها، كما أن الحرب وقتها كانت النموذج السائد في العلاقات بين الكيانات السياسية، وفي الكثير من الأحيان يُلجأ للحرب لأتفه الأسباب في ظل غياب القوانين الدولية الرادعة والمنظمة للعلاقات بين الأمم بحيث بقي قانون الأقوى هو السائد في التعاملات الدولية لفترة طويلة؛ غير أن ذلك تغير مع تطور المسيرة البشرية التي سارعت إلى سن القوانين المنظمة لاستخدام العنف في العلاقات الدولية بعد الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن العشرون والدماء الكثيرة التي أريقت وفرضت على العالم بلورة نموذج عالمي جديد يقوم على القانون بدل القوة، وفي هذا السياق توالت المواثيق الدولية المحرمة للحروب بدءاً من ميثاق "برياند-كيلوج" في العام 1929 وليس انتهاء بميثاق الأمم المتحدة الذي جاء ليفرض قيوداً على الحروب ما عدا في حالتين الأولى عندما يتعلق الأمر بدفاع مشروع عن النفس، والثانية عندما يُتخذ قرار الحرب من قبل مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وبهذا المعنى لم يعد ينظر إلى الحرب العادلة باعتبارها تطوراً في العلاقات الدولية وإنجازاً يُفتخر به بقدر ما يعتبر اليوم نكوصاً إلى الوراء، هذا بالإضافة إلى الطابع الذاتي لمفهوم الحرب العادلة، إذ من يقر بأن الحرب التي يخوضها غير عادلة بسبب تضارب التفسيرات حول ما يشكل الحرب العادلة، لذا جاء القانون الدولي ليؤطر التأويلات الفردية، وليبلور معايير فاصلة وغير قابلة للنقاش تحسم التفسيرات الذاتية. والحقيقة أن أوباما لم يكن في حاجة إلى استحضار الحرب في أفغانستان لتبرير الحرب العادلة ما دامت تجري بتفويض واضح من الأمم المتحدة وشكلت ممارسة لحق مشروع في الدفاع عن النفس، لكن المشكلة في استمرار الحرب وعدم تحقيق جميع أهدافها المعلنة. أوباما تطرق لنقطة أخرى في خطابه أثارت بعض المخاوف بإشارته إلى تقادم هياكل الأمن الدولي المعمول بها حالياً بسبب حجم التحديات والمخاطر الكبرى التي تحدق بالعالم في إحالة غير مباشرة ربما إلى وظيفة الأمم المتحدة وعجزها عن الاضطلاع بمهامها الأساسية، والحال أن مجال إصلاح الأمم المتحدة معروف ليبقى مدى استعداد الولايات المتحدة نفسها لتوسيع مجلس الأمن بضم قوى عالمية أخرى ومنحه صلاحيات أكبر، وعندما يقول الرئيس الأميركي أيضاً إن الشر موجود في العالم، ويتعين التصدي له فهو كأنه يعيد إلى الأذهان خطاب بوش عن "محور الشر" وسياسته التي قادت إلى الكوارث المعروفة للجميع. ويمكن أيضاً مساءلة تصريح أوباما بأن الولايات المتحدة تكبدت الكثير لإرساء السلم العالمي من خلال بذل المال والأرواح متناسياً الحروب الأخرى المثيرة للجدل التي خاضتها أميركا سواء في فيتنام، أو في أميركا اللاتينية والتي لم تكن تحظى بالشرعية، ناهيك عن التدخلات الأخرى ودعم الأنظمة الديكتاتورية في الكثير من بلدان العالم الثالث خلال فترة الحرب الباردة. ومن بين الأسئلة الكبرى المطروحة حالياً على بساط النقاش ما يتعلق بمنع ارتكاب المجازر الكبرى ضد المدنيين من قبل حكوماتهم، أو وضع حد للحروب الأهلية التي تتسبب في خسائر كبيرة في الأرواح وتهدد استقرار مناطق بأكملها، بحيث لا يمكننا سوى الاتفاق في هذه الحالات على مشروعية التدخل وشن الحرب لمنع وقوع الأسوأ، ذلك أن الرفض القاطع لاستخدام القوة في بعض الحالات قد يؤدي إلى نتائج عكسية وينتهي بقتل المدنيين، لكن هنا تبقى مشروعية التدخل العسكري رهينة بمن يقرر والطريقة التي يتم بها التدخل، فضلا عن المشاركين فيه. فكيف مثلا يمكن تبرير تدخل ما دون آخر؟ وما الذي يجعلنا نهتم ببلد دون غيره؟ وفي هذا السياق يمكن التساؤل عن السبب الذي يدفع المجتمع الدولي إلى تجاهل الصراع الذي يمزق جمهورية الكونجو الديمقراطية، والذي خلف عشرات الآلاف من القتلى، لكن لحسن الحظ اعترف أوباما بعدم قدرة أميركا لوحدها على ضمان الأمن والسلم العالميين، ويمكن أيضاً احتساب بعض النقاط لصالحه مثل حظره التعذيب وإغلاقه لمعتقل جوانتانامو سيئ السمعة، وإذا كان أوباما حريصاً فعلا على استحقاق جائزة نوبل للسلام فإن عليه التصدي، بدلا من مناقشة مفهوم الحرب العادلة، لمسألة إرساء السلام في الشرق الأوسط ووضع حد للصراع المستمر هناك.