في ما يشبه الغابة الدولية أخذ الدب الروسي يتسلق أشجارها ليقرأ سماء النسر الأميركي ويتعرف عليها. وفي حقيقة تاريخية تمتد إلى يومنا هذا، وتفسر كيف أتى عالمنا الذي يسمى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، استطاعت الولايات المتحدة أن تقدم العلاقات الدولية كمحصلة لجميع المعاهدات والاتفاقيات التي من بين بنودها ما يتعلق بالدول والقوميات والسيادة. وهنا قدمت واشنطن العلاقات الدولية كإطار يضم مختلف الدول بتفاوتها في القوة والموارد، وهو ما جعلها تؤيد حركات التحرير لكي تغير من موازين القوة العالمية بين الدول الاستعمارية التقليدية كبريطانيا وفرنسا وبين القوى الجديدة، وقدمت واشنطن للعالم دعمها القوي لفكرة الأمن والسلم في المجتمع الدولي، وهي فكرة تعود إلى الثلاثي "توماس هوبز" و"جون لوك" و"جان جاك روسو" فيما يسمى "العقد الاجتماعي"، وأتت بأفكار الإنجليزي "ديفيد ميتران" الذي نَظَر إلى الحروب وأسبابها ونَظَّرَ لها بقولهِ إن ما يتصارع عليه العالم يمكن أن يتعاون من خلاله، وفيه وإن لم تتساوَ المكاسب بين الأطراف، أي أن "أسباب الصراع يمكن أن تكون أسباباً للتعاون". أجل، لقد غيرت الولايات المتحدة العالم بقوة القانون التي تحتاج إلى قوة غابية توفرت في أميركا عندما برزت في صورة الإمبراطورية الجديدة، إلى جانب كونها امتدادا للقارة الأوروبية، وعندما ظهرت، في صورة أخرى، باعتبارها المحافظة على أمن أوروبا واستقرارها. ورغم أن معظم المعاهدات والاتفاقيات كانت تخرج من أوروبا لوقف الصراع والحروب فيها، إلا أنها توقفت عندما برزت الولايات المتحدة كقوة خارج أوروبا يهمها استقرارها. وبذلك أصبح العالم في وضع أقل حروباً وأكثر تعاونا رغم أن الدول الكبرى بقيت كبرى لها قوتها القانونية بحضورها في مجلس الأمن تدعِّمُها قوتُها غير القانونية التي اكتسبتها من حقها الطبيعي، حيث إن تلك القوى تستطيع تجاوز القانون لأنها معنية بالمحافظة على عالم تقل فيه الحروب، ويكثر فيه التعاون، ويكون أقرب إلى حالة الاستقرار، بمعنى أن القوة الغابية تحفظ القوة القانونية على مستويات معينة ومقبولة، ولا أحد يستطيع مواجهتها بالقانون، ومن يجادل بضرورة تطبيق القانون على الدول كافةً يجعل العالَم ميتاً، أو يحتضر لأن القانون لا يخلق مسعى للقوة والنفوذ والثروة، ليبقى هذا العالم بين "القوة الغابية والقوة القانونية"، عالماً حياً. لقد حفزت الولايات المتحدة دولاً نامية لتكون فاعلة في منظومة العلاقات الدولية وذلك للوقوف على طاولة يربح ويخسر فيها الأطراف الداخلون في العلاقات والتحركات، وكانت الأهمية لا تنبع من الربح والخسارة، بل من القدرة على الاستمرار في الحركة. وأجادت واشنطن لعبة المصالح في العلاقات الدولية، وأصبح العالم بفضلها يسير في أطر من العلاقات الدولية تجمع دولًا مختلفة ومتفاوتة. ولا شك في أن الدول الكبرى رضيت بهذا الإطار الدولي الذي يمثل محصلة العالم من إمبراطورياتهِ وحضاراتهِ إلى دولهِ المتحاربة إلى دول أكثر تعاوناً واتصالاً وأقل تصادماً. وبعد الحرب الباردة، لم تعزز الولايات المتحدة العلاقات الدولية كما كانت تفعل لعدم وجود لاعبين كبار يتحركون ويتصارعون على طاولة العالم، وكأن العالم قد رضي بالإنفراد الأميركي بالرأسمالية والليبرالية. لكن الوضع الدولي تغير اليوم، وهذا التغير المهم يفسره عقول كبار المنظرين والعارفين بهذا العالم، كيف أتى وأين أصبح، الذين يَرَون العالم من منظور الواقعية والقوة وتوصلوا إلى نتيجة عظيمة من منطلقات القوة والمصالح والأمن ويدعمها تاريخ الإنسان ومفادها أنه يستحيل أن تكون في العالم قوة عالمية منفردة، فإذا برزت قوة واحدة تسيطر على العالم سعت قوى أخرى إلى خلق ثِقل موازٍ، ومثال ذلك يفترض أن يقود إنفراد الولايات المتحدة كقوى عالمية إلى إيجاد قوى تتعاون في إستراتيجية مَا تعمل على ألا تكون هناك قوة منفردة، ويمكن أن نرى ذلك في تكتل أوروبي موازٍ لكنه متداخل داعم لواشنطن في جوهرهِ، أو في تكتل روسي هندي صيني، ربما يكون موجها لتقييد القوة الأميركية مستقبلاً بصورة أوضح. وبعيداً عن التكتلات، لقد قرأت موسكو سماء النسر الأميركي في إعادة تحفيز دول مهمة من دول العالم النامية التي يتملكها الطموح والإرادة، لكي تكون نموذجاً لفعالية الدول في العلاقات الدولية. فالتعاون الروسي- الإيراني، والصيني- الإيراني أيضا، يقدم حافزاً كبيراً لفعالية الدول النامية، ولإيجاد علاقات ومصالح متعددة ومعقدة بينها وبين الدول الكبرى. ومن خلال تحركات إيران كفاعل إقليمي خليجي وشرق أوسطي نجد تركيا بما تحمل من مقومات تتحرك كفاعل يستطيع أن يحقق مصالحه ويقدم نفسهُ ببعدهِ الأمني والاقتصادي والجغرافي بين أطراف متصارعة، فالملاحظ أن هناك زخماً في العلاقات الدولية سياسياً واقتصادياً مثلما يتجلى في نشاط الشركات. وذلك يفسر أيضاً تخبط إسرائيل في تحسين علاقاتها مع روسيا بعد أن كانت ضدها في الحرب الجورجية، فموسكو ترغب في تحريك الدول النامية عبر مصالح متعددة وعلاقات متشعبة من أجل الحد من القوة الأميركية العالمية والتأكيد على أن أقدم إمبراطورية موجودة ولا يمكن تجاهلها. والحق يقال إن موسكو رأت في الطاقة سماءً أخرى يمكن من خلالها تضييق حرية تحليق النسر الأمريكي، فقد أمسكت مواردَها من الغاز والنفط وتحركت لخلق ما يشبه المنظمة لمصدري الغاز لكي تلعب دوراً رئيساً في تحديد سعر الغاز ليكون سعره عالمياً يتحكم فيه كبار مصدريه، كما هي الحال في الدور الأول والمهم الذي تلعبهُ منظمة أوبك، فمن المعلوم أن الدول الكبرى تتصارع على الموارد الطبيعية ،التي قال بشأنها خبير الأمن القومي الأميركي "مايكل كلر" إن تأمينها يدخل في مهام المؤسسة العسكرية، فالدول الكبرى والصناعية تحتاج إلى الموارد الطبيعية أكثر من غيرها لِعِظم ما تستهلك وما تنتج. كما أن الصراع على الموارد سمة عامة للدول تنتقل فيه من حالات التعاون والتنافس إلى الصراع والعدوان، فها هي إيران تدخل جنوب العراق منتهكةً سيادتهُ بهدف السيطرة على حقل نفطي حتى تتّخذه وسيلة للصراع مع دول كبرى. موسكو وواشنطن كلاهما يجر الآخر فمِن مسألة الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية والتكنولوجيا النووية الإيرانية، وبروز الدول النامية وتحريك العالم في علاقات متشعبة وحرب جورجيا، ومحاولة تقاسم المصالح والمكاسب، نجد أن موسكو، بأوراقها السياسية والاقتصادية، ترغب في جعل أمن العالم واستقرارهِ بيد دول كبرى مسؤولة، تزاحِم واشنطن وتشاركها، وأيضاً تحقق مصالحها وتعزز قوتها. ولا نذهب بعيداً، تبقى قوة الولايات المتحدة الاجتماعية والثقافية والعلمية والاقتصادية والسياسية والصناعية مصدرا لريادتها حتى ولو تكتلت موسكو وبكين ونيودلهي في مواجهتها، أما أوروبا، فلا بد أنها ستساير واشنطن من منطلقات تاريخية وسياسية واستراتيجية وثقافية.