لم أكن يوماً من المؤمنين بالمقولة التي ذهبت إلى أن التجمعات الفرعية هي أقصر طريق إلى الوحدة العربية. كانت حجتي الأساسية أن هذه التجمعات لم تعلن لنفسها بالضرورة الوحدة العربية هدفاً، كما أن بنيتها تحمل سمات التناقض نفسها التي يحملها النظام العربي ككل ومن ثم فإن معاناتها في السعي نحو التكامل ستكون كمعاناة النظام العربي نفسه. لكن مجلس التعاون لدول الخليج العربية بقي مرشحاً لكي يكون استثناءً من هذا الحكم العام، فدرجة التشابه بين أعضائه تفوق بكثير مثيلتها في النظام العربي ككل أو في معظم تجمعاته الفرعية، ولعل هذا هو السبب في أن مجلس التعاون الخليجي هو الوحيد الذي صمد حتى الآن وحافظ على كيانه المؤسسي، وعلى وتيرة السير نحو تحقيق أهدافه حتى وإن صادفته عقبات من حين لآخر، أو وصفت هذه الوتيرة بالبطء الشديد أحياناً. ومن ناحية أخرى لاشك أن هدف تحقيق الوحدة العربية قد تراجع إلى الخلف في قائمة أعمال النظام العربي سواء بسبب تكريس القُطرية في أرجاء الوطن العربي، أو لأن عدداً من الدول العربية بات يواجه خطراً حقيقياً على وحدته أو على الأقل استقراره، ولذلك فإن عدم الإيمان بأن التجمعات الفرعية يمكن أن تكون سبيلاً مضموناً إلى تحقيق الوحدة العربية لا يعني أن قيام هذه التجمعات وتقوية تماسكها ورفع مستوى التكامل داخلها هدف لا ينبغي السعي إليه، بل على العكس فإن من شأن تحقيق هذا الهدف أن يفضي إلى قيام كيانات قوية قادرة على الوفاء بمتطلبات أمنها ورفاهيتها الاقتصادية، وهو أمر من شأنه تقوية هذه التجمعات والنظام العربي في آن واحد شريطة ألا تكون بداية لانسلاخ الجزء من الكل، ففي هذا الانسلاخ إضعاف للجميع. وعلى رغم تخوف البعض من وجود هذا الاتجاه فإن قراءة البيان الختامي لقمة الخليج الأخيرة في الكويت تشير إلى الترابط التام بين مجلس التعاون لدول الخليج العربية وبين قضايا أمته العربية. نشأ المجلس وتطور عبر مسيرته التكاملية الأطول عمراً في النظام العربي، وعلى رغم تماسكه المؤسسي فإن البعض ضاق بالخلافات بين أعضائه أحياناً، وتعثر خطوات التكامل الاقتصادي بينهم، وافتقاد المجلس إلى ذراع أمنية قادرة على الوفاء بمتطلبات ردع العدوان، ولذلك تعرضت مسيرة المجلس للنقد من داخلها، وشارك قادة دول أعضاء في المجلس في عملية النقد الذاتي هذه على نحو علني. وعلى رغم استمرار بعض الظواهر التي تبرر هذا النقد فإن عين المراقب لا يمكنها أن تتغافل عن تطورين مهمين في مسيرة المجلس يمكن تبيّنهما بوضوح في قرارات قمة الكويت الأخيرة. أما التطور الأول فهو التأكيد على المنحى الجديد الذي بدأت عملية التكامل الوظيفي داخل المجلس تأخذه. صحيح أن المجلس قد تبنى منذ بدايته النهج الوظيفي في تحقيق التكامل على نحو يشبه مسيرة الاتحاد الأوروبي، ولكن تطبيق هذا المنهج بدا متعثراً في كثير من الأحيان. ولعل ذلك كان راجعاً إلى عدم التركيز على ما يمكن تسميته البنية الأساسية لتحقيق التكامل، وهو ما بدأ المجلس يركز عليه في السنوات الأخيرة وانعكس بوضوح في أعمال قمة الكويت الأخيرة وقراراتها، وقد احتفل قادة المجلس في اليوم السابق على القمة بانطلاق مشروع الربط الكهربائي بين دولهم، والذي تقدر تكلفته بـ 1.6مليار دولار، كما قررت القمة الإسراع باستكمال دراسات الجدوى الخاصة بمشروع سكة حديد دول المجلس، ودراسة إنشاء هيئة خليجية للإشراف على تنفيذ المشروع بكامله. ولنأخذ هذا التطور الأخير على سبيل المثال، وقد كنت أقول دائماً في مجال الحديث عن مناهج التكامل ومداخله أن خط سكة حديد واحداً يربط بين الدول العربية خير من مئة اتفاقية للوحدة الاندماجية الكاملة بينها، وقد كان دافعي فيما أقول أننا نملك في تاريخنا العربي المعاصر عشرات من الاتفاقيات الوحدوية لو وضعت موضع التنفيذ لكان للوحدة العربية شأن آخر، ولكن ما حدث على أرض الواقع أن هذه الاتفاقيات نسفت أو نسيت بفعل التناقض بين أطرافها ولم يبق شيء منها على أرض الواقع. أما "سكة الحديد" فمن شأنها أن تنقل البشر والسلع بتكلفة رخيصة، ومن ثم يكون بمقدورها أن تولد تيارات اندماجية حقيقية في المنطقة التي تغطيها "سكة الحديد" هذه. ومن هنا فإنني متفائل للغاية بأن إكمال مشروع "سكة حديد الخليج" سوف يمثل الأساس الحقيقي لإنجاز التكامل الاقتصادي بمعناه الشامل بين الدول الأعضاء في مجلس التعاون وإن كنت قد لاحظت أنه ما زال مشروعاً بدون أفق زمني واضح، وقد يكون من المناسب أن تكون هناك خطة زمنية لتنفيذه ولو من باب التحدي وحشد الدعم المعنوي له. وفيما يتعلق بالتطور الثاني فإنه يرتبط بأمن المجلس في مواجهة بيئته الخارجية، ولاشك أن مصادر تهديد هذا الأمن قد تفاقمت في الآونة الأخيرة، سواء بسبب حركة الحوثيين في اليمن وامتداد تهديدها إلى الأراضي السعودية، أو بسبب التهديد الإيراني سواء اتخذ ذلك شكل الاستمرار في احتلال الجزر الإماراتية أو امتداد المشروع الإقليمي الإيراني إلى عدد من البؤر في النظام العربي، أو التهديدات المتكررة غير المباشرة للسلامة الإقليمية للبحرين، وأخيراً وليس آخراً العملية العسكرية التي قامت بها إيران في حقل "الفكة" النفطي في العراق. وفي مواجهة هذه التهديدات يبدو المجلس حتى الآن بدون ذراع عسكرية كافية يمكن لها أن تردع العدوان أياً كان مصدره. صحيح أن قمة الكويت قد تدارست مسيرة التعاون العسكري في مجالاته المختلفة، واطلعت على ما تم تنفيذه من خطوات في هذا الصدد، وأقرت الاستراتيجية الدفاعية للمجلس وتطوير قدرات قوات درع الجزيرة إلا أن المرء يتمنى أن تكون الأمور أكثر وضوحاً في هذا الصدد، وأن يكون مردودها ظاهراً خاصة مع تفاقم التحديات الأمنية التي تمثلها إيران بصفة خاصة، وهي تحديات لا يمكن مواجهتها إلا بعمل خليجي متماسك وقادر، وظهير عربي يتسم بالصفتين نفسيهما، وهذه قصة أخرى.