لو تخيلنا أقماراً اصطناعية تدور حول الأرض راصدةً على مدار الساعة الانفجارات والوميض فوق وعلى سطح الأرض ومصادره، فإنها ستجد البرق والصواعق الناشئة من اصطدامات السحب الركامية بعضها ببعض، وستجد إشعال أضواء مدن كبرى لأنوارها بعد أن تزداد عتمة لياليها. كما سترصد ألعاباً نارية مثيرة وضخمة بمناسبة الأعياد والاحتفالات والمناسبات الكبرى، في الوقت نفسه الذي ترصد فيه هذه الأقمار تغيرات الضوء على سطح الأرض فإنها لن تخطئ عندما تشير إلى شيء رتيب يحدث بشكل متتابع على بقعة من كوكب الأرض، بقعة واسعة تمتد من موريتانيا الواقعة على المحيط الأطلسي إلى إندونيسيا الواقعة على المحيط الهندي، هناك وميض من نوع آخر انفجارات متولدة من قنابل وأحزمة ناسفة وصواريخ أرض جو وقذائف. هل هذا أمرٌ مُتخيل؟ في الأسبوع الماضي رأيت مناظر بثتها وسائل الإعلام المرئية للعالم كله، كانت أشلاء الأطفال والنساء والمدنيين تتناثر في عاصمة الرشيد بعد عدة انفجارات متزامنة، لم يكن القتل الجماعي ذاك هو الأول الذي ترصده الأقمار الاصطناعية المختلفة، ولن يكون الأخير في بلادنا العربية والإسلامية.. بلاد تحية أهلها السلام! ما لم تستطع رصده تلك الأقمار، بل وخارج عن مهمتها، هو ذاك التخبط والسوء في إدارة المجتمعات الإسلامية والعربية لنفسها بدءاً من طوابير خبز الصباح، مروراً بقيادة المركبات، إلى أن نصل للعناوين الكبرى في حياة الأمم.. اقتصاداً.. وأمناً.. والرؤية المشتركة للعيش في داخل وحدات سياسية يسودها الاستقرار ومناخ العقد الاجتماعي. طبعاً ليست كل الدول المشار إليها سواسية في مقدار إظهار عورات إدارة الأمم، فالبعض القليل منها سُعِدَ بدخلٍ عالٍ، وسُعِدَ كذلك بفك شفرة التحضر والرُّقي، وحجز هذا البعض القليل كراسي وإن كانت متأخرة في بهو الحداثة وما بعد النمو، ولكن الكثير الكثير من مجتمعات الألف مليون مسلم -أو أكثر- يئن تحت وطأة الحاجة والإرهاب وفقدان بوصلة الاستقرار بكل أشكاله، ناهيك عن الأمن الاقتصادي والاجتماعي. ما الذي أوصلنا إلى ما نحن عليه الآن؟ الاستعمار؟! غادرنا منذ خمسين عاماً تقريباً، وما زلنا نتحدث عن مخلفات تركة استغلال الرجل الأبيض الاستعماري في بلادنا، على رغم أن مشروعات الصرف الصحي الذي تركها المستعمر تعمل بكفاءة رغم مرور أكثر من ثلثي القرن في بعض البلدان، بينما تفشل مثيلاتها من المشاريع في نفس الدول الـمُستعمرة سابقاً بعد تدشينها بستة أشهر .. على الأكثر! إشكالية الدين والدولة وعدم الفصل بينهما؟ كان المأمون وأبوه الرشيد يقولان للسحب: أمطري حيث شئت فإن خراجك لنا وللإسلام، يقولان هذا وهما خليفتان يسمعان في الصباح الأحاديث النبوية وتفاسير القرآن الكريم، بينما ينصتان في الظهيرة إلى مجادلات المنطق والفلسفة في بلاطهما، وقبل الغروب كانا يرسلان هدايا الساعات الرملية والأسد والاستطرلاب وأحدث أنواع الأدوية إلى ملوك العالم من حولهما. كان الجميع قادةً ورعية وعلى امتداد ممالك واسعة جداً لا يفرقون بين خليفة الإسلام وخليفة الحرب وخليفة صناعة الكلام وفن البناء وإقامة المراصد. هل الجينات العربية والإسلامية غير قادرة على تجاوز حتمية التأخير والفوضى والقتل فيها، لأن ذلك يعد ضرباً من المحال وزراعةً في أراضٍ يباب؟ أنا لا أميل لهذا التصنيف العنصري، والدليل ذاك النجاح الباهر والإبداع المتنوع الاستثنائي الذي يفعله الإنسان المسلم والعربي، متى ما أتيحت له فرص مطارحة العلوم والعمل في تمحيص الإنتاج البشري الخلاق، ورفع الحواجز المختلفة الأشكال والألوان المقامة في بلاده والمختفية في بلاد المهاجر شرقاً وغرباً. إذن ما أسباب التخلف؟ وما مرجعية نكوصنا عن مزاحمة الأمم المتقدمة إنسانياً واقتصادياً واجتماعياً؟ لا أجد سبباً معيناً مفرداً أعود إليه في هذه العجالة لتبرير ما جرى ويجري على أرضنا، إنها تراكمات من العوامل زادتها السنون تجذراً وأصبحت واقعاً يعبر عن نفسه بانفجار في مدرسة أو في دور رعاية للأيتام إن لم يحدث في مسجد أو مكتبة، كما يعبر عن نفسه هذا الكم من التردي من خلال أشكال بؤس الأكثرية واتساع هوة الفروق الاجتماعية والاقتصادية بينها وبين الأقلية، وفي ذاك الفساد الذي أصبح القاعدة، وفي فوضى المنازل والشوارع وأماكن العمل المختلفة، ومما يزيد من سواد وظلمة ما يعايشه العرب والمسلمون، وما يتمثل في فراغ موحش قاتل لمشاريع الإصلاح ومقاومة ثقافة الجمود، رضيت -للأسف- النخب بما هي فيه من واقع مفصول عن البقية، وانكفأت العامة من ناحيتها تبحث في زحمة فوضى التخلف عن فتات العيش وما يقيم الأود، والكل في هذه العتمة يتطاحن ويقاتل. هل هناك بصيص أمل؟ بكل ثقة أقول: نعم ثقة في موارد الأمة الإسلامية والعربية، الموارد الطبيعية والمقومات البشرية الهائلة المتوفرة. لكن هذا لا يكفي دون مشاريع نهضوية تستفيد مما يقبع تحت الأرض وفوقها. إن التخلف ليس قدراً مقدوراً على بلاد الإسلام والعرب، والإرهاب والاقتتال وإيذاء الآخرين والذات ليست بصمات وراثية مولودة مع أمة الموحدين وأهل لغة الضاد، إنما لا يكفي هذا النفي المجرد لإثبات النقيض ما لم تأخذ أمتنا نفس الطريق الذي سلكته أممٌ قبلنا نامت فترات طويلة في بيات قرونها المظلمة، لتعود قائدة للعالم بعلومها وفتوحاتها الفكرية واستنباط عقود اجتماعية مبتكرة تأسس لواقعها الراهن المرفه والآمن والمستقر. لا يمكن توقع الحصول على قطعة من فطيرة النهضة والتقدم دون ثورة في التعليم الأساسي ومخرجاته، وللتعليم الجامعي بعد ذلك، ودون حلول لا تصطدم بالموروث لمشكلة ازدياد السكان العاطلين عن العمل والأميين ثقافياً، ودون قتل الحيوان الأسطوري الذي تربى في أوساطنا، حيوان اسمه الفساد بكل أشكاله إلى حد أن أصبح مؤسساً ومتجذراً. أما إطلاق حمائم الإبداع والحرية المسؤولة والعدل وحقوق الإنسان والشفافية فلازمة لابد منها للمستقبل الحلم. وحتى ذلك الحين تُسجل الأقمار الاصطناعية مزيداً من وميض الانفجارات على طول الأرض الممتدة من إندونيسيا وحتى موريتانيا!