في خضم الحديث عن التغيرات المناخية، والتبعات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية المترتبة عليها، كثيراً ما يغيب عن المناقشات والمفاوضات، وحتى عن التغطية الإعلامية، حجم التبعات الصحية التي ستنتج عن تلك التغيرات، وخصوصاً تلك التبعات المتعلقة بصحة الأطفال. هذا على رغم أن الأرقام، والإحصائيات، والدراسات، تظهر بشكل جلي ومؤسف فداحة الثمن الذي يدفعه الأطفال بسبب الظروف البيئية الصحية السلبية. فعلى سبيل المثال، تعتبر العوامل البيئية مسؤولة مسؤولية مباشرة عن 88 في المئة من المليون ونصف المليون وفاة التي تقع سنوياً بين الأطفال بسبب الإسهال. وما لا يدركه كثيرون هو أن الإسهال يحتل المرتبة الثانية على قائمة أسباب الوفيات بين الأطفال دون سن الخامسة. وكما ذكرنا تعود 88 في المئة من هذه الوفيات إلى عوامل بيئية مثل المياه الملوثة، وضعف نظم الصرف الصحي، وانخفاض مستوى النظافة العامة والشخصية. ولذا، يمكن الوقاية من العديد من الأمراض المسببة للإسهال من خلال إجراءات بسيطة مثل تخزين مياه الشرب بشكل آمن، وغسل اليدين بانتظام، كما أن الاعتماد على الرضاعة الطبيعية يعتبر من أهم السبل وأكثرها فعالية في منع أمراض الإسهال والوفيات الناتجة عنها بين الأطفال. وعلى المنوال نفسه نجد أن العلاقة بين العوامل البيئية وبين السبب الأول للوفيات بين الأطفال صغار السن وهو الأمراض التنفسية وخصوصاً الالتهاب الرئوي الحاد، علاقة قوية ومباشرة بشكل كبير. فالأمراض التنفسية التي تحتل رأس قائمة الأمراض القاتلة للأطفال تقع نصف الوفيات الناتجة عنها بسبب تلوث الهواء داخل المنزل، وخصوصاً بفعل الغازات الناتجة عن حرق مواد الوقود البدائية، في ظل ظروف سكنية سيئة كتلك التي يعيش فيها غالبية أطفال دول العالم النامي. وفي كلا المعسكرين، الدول النامية والدول الغنية، يشكل تدخين أحد الأبوين أو كلاهما داخل المنزل، عامل خطر خاص يمهد لإصابة الأطفال بالعديد من الأمراض والعلل. وربما كان تراكم هذه العوامل البيئية، أو بالتحديد تلوث الهواء الناتج عن حرق مواد الوقود، أو التدخين الثانوي، أو عوادم السيارات، هي الأسباب الأهم في الزيادة المطردة في معدلات الإصابة بالأزمة الشعبية أو الربو بين أطفال دول العالم جميعها دون استثناء، وإلى درجة أن الأزمة الشعبية أصبحت هي أكثر الأمراض المزمنة انتشاراً بين الأطفال على الإطلاق حالياً. وهذه العلاقة بين الأزمة الشعبية وبين تلوث الهواء تجعل من الضروري التعامل مع هذا المرض من خلال خفض التعرض للمثيرات، باعتبار ذلك خطوة أساسية في استراتيجية التشخيص والعلاج. ولا يقتصر التلوث البيئي الذي يتعرض له الأطفال على الملوثات المحمولة في الهواء، بل يمتد إلى طرق ومجالات أخرى، مثل التلوث بعنصر الرصاص، والذي يتعرض أكثر من ثلث الأطفال في بعض المناطق النامية لتركيزات مرتفعة منه، تصل إلى حد التسمم المزمن. ومن المعروف أن التسمم المزمن بعنصر الرصاص يؤثر سلباً على النمو الطبيعي للمخ وللجهاز العصبي المركزي، مما يؤدي إلى اضطرابات سلوكية، وإعاقات تعليمية، بالإضافة للإصابة بأمراض القلب في مراحل لاحقة من الحياة. وهذا التأثير المدمر لعنصر الرصاص على مستقبل الأطفال، العقلي والجسدي، كان أحد الأسباب التي دفعت العديد من الدول إلى استخدام البنزين الخالي من الرصاص. وإن كان عدد كبير من الأطفال، لا زال يتعرض لهذا العنصر بتركيزات مرتفعة، من خلال طلاء الجدران المحتوي على الرصاص، أو من خلال بعض مواد التجميل، أو الأدوية العشبية، أو نشاطات إعادة تدوير النفايات وخصوصاً النفايات الإلكترونية مثل الكمبيوتر، أو المتأتي من المصانع والمصاهر المحلية. وهذا التسمم المباشر يقع بشكل مماثل أيضاً من المبيدات الحشرية من جراء الاستخدام الخاطئ، أو التخزين والتخلص من البقايا بشكل غير سليم. ومن المعروف كذلك أن التعرض المزمن للمبيدات الحشرية، حتى وإن كان بتركيزات منخفضة، يرتبط بتأثير سلبي على نمو الأطفال، وقدراتهم العصبية، وصحتهم الإنجابية أيضاً. ولا يشترط التعرض للمبيدات الحشرية عمل العائلة أو الطفل في مجال الزراعة، حيث كثيراً ما يحدث التسمم نتيجة استخدام المبيدات الحشرية في حدائق المنازل، أو داخل المنازل نفسها، أو حتى داخل المدرسة، أو عن طريق مياه الشرب أو الأغذية الملوثة أيضاً. والخلاصة أنه عند تحليل العلاقة بين البيئة وبين الأمراض، وخصوصاً التغيرات المناخية والبيئية المتوقعة، نجد أن خمسة وثمانين في المئة من عبء الأمراض والوفيات الناتجة عنها، سيقع على كاهل أطفال دول العالم النامي وحدهم. فالأطفال هم الأكثر عرضة للإصابة وللوفاة عند وقوع الفيضانات، وهم الضحية الأولى للأزمة الشعبية والأمراض التنفسية بسبب ارتفاع درجة الحرارة إلى حدود قصوى ولتلوث الهواء بالملوثات المختلفة. كما أن التغيرات المناخية برمتها سترفع من احتمالات الإصابة والوفاة بسبب حزمة متنوعة من الأمراض المعدية، مثل الملاريا، وأمراض الإسهال، بالإضافة طبعاً إلى سوء التغذية والمجاعات الناتجة عن القحط وشح الأمطار. وهي كلها عوامل وظروف وتوقعات، تجعل من الأطفال الضحية الأولى، والأكبر، لأية تغيرات مناخية مستقبلية تؤدي إلى آثار بيئية سلبية. د. أكمل عبدالحكيم