لا شك أن أعمق معالجة سينمائية لطبيعة العلاقات المصرية الإسرائيلية في زمن التعاقد السلمي كانت في حاجة إلى زمن كافٍ للنضج. ويبدو أن مرور ثلاثين عاماً منذ توقيع اتفاقية السلام عام 1979 كان ضرورياً لكي تستوعب الدراما السينمائية بأدواتها البصرية والحوارية والتشويقية جوهر هذه العلاقات وتدمجها في عمل سينمائي يكتب له النجاح. إن مشاهدة فيلم "أولاد العم" الذي أخرجه شريف عرفة بعين المتخصص في قضايا الصراع والسلام العربي الإسرائيلي يمنحك زاوية للرؤية تضاعف من متعة المشاهدة بإضافة العمق الفكري. لقد حفل الفيلم بعناصر الإثارة والتشويق سواء في بناء القصة أو في أداء النجوم الثلاثة (منى زكي وكريم عبدالعزيز وشريف منير)، أو في فنون الإخراج الحديث. ولكن كل هذه العناصر ستصبح بالنسبة للمشاهد الواعي مفردات في منظومة فكرية نشطة وساخنة إذا ركز لالتقاط جوهر رسالة الفيلم. إن هذا الجوهر يظهر على لسان كريم عبدالعزيز الذي يؤدي دور ضابط المخابرات المصري في المشهد الأول الذي يقرأ فيه بياناً باللغة العبرية في الإذاعة الموجهة لإسرائيل، حيث يلمع هذا الجوهر في جملة ينهي بها البيان تقول كلماتها: "من هنا نسأل هل ينتهي الصراع العربي الإسرائيلي أم يستمر إلى الأبد"؟ إن هذا السؤال يطلق لدى المتفرج حالة من التداعيات الفكرية تستدعي في ذهنه مخزونه من مشاهد التاريخ الحي الذي يجسد اغتصاب فلسطين وتشريد شعبها على أيدي الصهيونية، كما يجسد جرائم الحرب ضد المدنيين منذ عام 1948 وإلى آخر العمليات في غزة عام 2008. والأهم أن السؤال يستدعي أمام عيني المشاهد كل المراوغات السياسية التي تقوم بها حكومات إسرائيل للتملص من الحل السلمي ومن رؤية إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة إيثاراً لأطماع التوسع الصهيونية. وهنا يتحفز ذهن المشاهد ويصبح مستعداً للمشاركة في الإجابة على السؤال مع أحداث الفيلم الساخنة. ومع المشاهد الأولى يجد المشاهد نفسه أمام لغز غريب يمثله قيام شريف منير الذي يبدو -كمصري عادي- باصطحاب زوجته إلى نزهة بحرية في عرض البحر ومباغتتها أمام طفليهما باعتراف صادم بأنه ليس مصرياً وإنما هو ضابط في المخابرات الإسرائيلية، وأنه سيصطحبها هي والطفلين إلى إسرائيل بعد أن انتهت مهمته في مصر! وبالتدريج يحل اللغز حيث نعلم أن هذه الزوجة المصرية كانت في صحبة عائلتها بالعراق منذ سنوات، وهناك تسلل هذا الضابط المنحدر من عائلة من يهود مصر ليستأجر مسكناً مجاوراً، ومع الوقت يقدم نفسه كمصري عادي مسلم ويتزوج الفتاة ويعود معها إلى مصر متخذاً منها غطاءً لنشاطه المخابراتي دون علمها. ونعلم أيضاً أن قرار الضابط الإسرائيلي بالهروب من مصر ناتج عن المطاردة للشبكة التي أسسها والتي يقودها الضابط المصري كريم عبدالعزيز. إن الانطباع الرئيسي هنا هو أن معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية لم تمنع إسرائيل من دس أحد ضباط مخابراتها للعمل في مصر وتشكيل شبكة للتخريب الاقتصادي والتجسسي. لقد جسدت هذا الانطباع سلسلة القضايا التي سبق أن أعلنت عنها السلطات المصرية حول اكتشاف شبكات تجسس إسرائيلية خلال الثلاثين عاماً الماضية، وهي شبكات وجدت في حرية الحركة التي تتيحها علاقات السلم بوابتها لاقتحام مصر. إن الانتقال مع الزوجة المختطفة إلى إسرائيل صاحبه تصوير للمجتمع الإسرائيلي يكشف الأقنعة الديمقراطية الزائفة ويكشف الأستار عن حالات التمييز العنصري بين اليهود الشرقيين والغربيين السفاراديم والاشكناز، وعن طبائع الفساد في الإدارة. أما عندما يكلف الضباط المصري بالتسلل إلى إسرائيل في صورة عامل بناء بمساعدة مقاول فلسطيني في محاولة لاستعادة الزوجة المخطوفة وابنيها، فإن المشاهد المصاحبة تكشف لنا عن المعاناة الإنسانية القاسية التي يتعرض لها الفلسطينيون، والتي يأتي في مقدمتها انسداد أبواب الرزق والاضطرار إلى العمل في هدم البيوت الفلسطينية وبناء السور العازل. إن الغضب الذي يغلي في عروق ضابط المخابرات المصري وهو يشاهد هذه المعاناة الفلسطينية على الطبيعة يكاد يدفعه إلى التصدي للجنود الإسرائيليين لولا أن كبح جماحه المقاول الفلسطيني المسؤول عن تأمين دخوله إلى إسرائيل واستكمال مهمته. وفي هذه الأجواء يتأكد انحياز الوجدان المصري القطعي للحق الفلسطيني بعبارات تصدر على لسان الضابط، والأهم بتفاعل الجمهور في دور السينما بالتصفيق أثناء العرض لمعنى الالتزام القومي العربي. إن السؤال الافتتاحي المشار إليه ينبه حواسنا إلى أننا في مواجهة سؤال تاريخي مستقبلي مصيري كبير، ومع نهاية الفيلم نتوحد برسالة الفيلم التي تدعونا إلى اليقظة إلى أن مطامع إسرائيل باقية وكراهيتها لمصر ما زالت مستمرة، وأنه لا ينبغي علينا السقوط في غيبوبة التعاقد السلمي والغفلة عن مصادر الخطر القادم.