تولى د. سعدون حمادي (1930-2007) العديد من المناصب الرفيعة في نظام حزب "البعث" ودولته في العراق، منها رئاسة تحرير صحيفة "الجمهورية"، ورئاسة شركة نفط العراق، ووزارة النفط والمعادن، ووزارة الخارجية، بل ورئاسة الوزارة، في سبتمبر 1991، بعد مغامرة غزو الكويت وما أنزلت بالعراق والكويت والعالم العربي، وفكرة الوحدة العربية نفسها.. من كوارث! د. حمادي كان بين المشاركين في منتدى "المشروع الحضاري النهضوي العربي" بالمغرب، 1 أبريل 2001. وقد تقدم بورقة عن "الوحدة العربية من منظور المشروع الحضاري"، تحمل نفس العقلية التسلطية، وتبين بجلاء أن فكر حزب "البعث" البسماركي لا يزال هو نفسه، وأن د. حمادي لم يستفد درساً واحداً من "أم الهزائم" عام 1991! ولو أخذنا كلامه "من الآخر"، كما يقول الأخوة المصريون لوجدناه يقول باختصار شديد مختتماً بحثه حول الوحدة العربية بأن هناك النهج الرسمي، من خلال الجامعة العربية مثلاً ولكن لا يمكن الاعتماد عليه. وهناك "مسار الثورة"، وتحقيق الوحدة العربية بالقوة المسلحة والعنف والتوسع! وإليك ما يقوله بالنص: "إذن، للجواب عن سؤال: كيف تتحقق الوحدة؟ هناك عدد من السياسات: هناك العمل من خلال الأنظمة العربية الموجودة ومجالها الجامعة العربية. وذلك أحد المسارات التي يجب ألا تُهمل مهما كانت درجة التعويل عليها، فعلينا أن نسلكه ونعمل فيه وكأنه الوحيد الذي يؤدي إلى اقتناع النخبة الحاكمة بضرورة الوحدة، فتحققها بالتدريج عن قناعة أو عن مصالحة أو تحت الضغط. ثم هناك مسار الثورة، وعلينا أن نعمل من أجله وكأنه الإمكانية الوحيدة المتاحة. فكلما سنحت الفرصة، علينا ألا نحجم أو نتراجع أو نخشى شيئاً، وألا نرتبط بمقولات مسبقة يحاول أعداء الوحدة أن يفرضوها علينا. وبذلك يكون عملنا على غرار القول المأثور: "اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً". ويقترح د. حمادي إنشاء "جبهة قومية" عربية، عابرة للحدود والكيانات العربية الحالية، على أساس جمع كل المؤمنين بهدف الوحدة والمستعدين للعمل من أجل تحقيقها. ولتحقيق هذه الجبهة وأهدافها، يقول د. حمادي في شطحة فكرية بعثية مغامرة، "لابد من تخطي الحدود القُطرية، ولابد من العمل ضمن أو خارج قوانين الدولة القُطرية ورفض شرعية الدولة القُطرية.. أما متى وكيف ولماذا هذا المسار وليس ذاك؟ فلا يوجد قانون رياضي لتحديده". هذه السياسة العقائدية المزدوجة، التي يبرر بها د. سعدون حمادي عدوان الدول العربية، كل دولة على جارتها باسم تحقيق أهداف الوحدة العربية، لا يطرحها إنسان بسيط متحمس، بل ينادي بها سياسي عربي في العقد السابع من عمره، بعد تجارب مريرة للعالم العربي مع هذه الأفكار المغامرة والشعارات الجوفاء، وبعد كارثة وحدوية اندماجية كان بطلها وقائدها الرئيس الأعلى لسعدون حمادي! ثم كيف يمكن للعلاقات الخارجية أن تستمر طبيعية بين البلدان العربية، وكيف يمكن للمشاريع الاقتصادية وغيرها أن تنجح، إن كان بعض "الأنظمة القومية"، تتربص وتغتنم فرص "تحقيق الوحدة".. بالأسلوب الثوري، كما يحلم د. حمادي؟! لقد ذكرنا أن د. حمادي تولى بعض المناصب الوزارية الاقتصادية كوزارة النفط مثلاً. فلماذا لم يقف مطولاً أمام نهج الأوروبيين مثلاً في احترام الكيانات الصغيرة القائمة وفي الاعتماد على التنسيق الاقتصادي والقانوني وتبادل المصالح والتدرج، بدلاً من هذا "النهج الثوري" الذي يدعو إليه؟ الغريب حقاً، أن د. حمادي، مدرك لمختلف جوانب التجربة الأوروبية وإمكانية الاستفادة منها عربياً، ولكنه بالطبع مفكر "مؤدلج" قومياً وفكرياً ومنهجياً من جانب، وتحت الرقابة العقائدية ثانياً من قبل نظام بغداد آنذاك! ويتحدث د. حمادي بالتفصيل عن مسار التعاون المتدرج بين الدول العربية والحاجة إلى توسيع الأسواق والمناطق الحرة واتفاقية السوق العربية المشتركة عام 1964 والاتفاقيات المكملة اللاحقة عام 1971 و1998 و2000. بل إن د. حمادي يشير إلى الوضع العالمي ونشوء التكتلات الدولية. ولكنه للأسف لا يتعمق في دلالة تجاربها. وحتى عند إشارته لزوال المعسكر الاشتراكي وتفتت دولة عظمى كالاتحاد السوفييتي، يمر بالحدث مرور الكرام، وكأنه يشير إلى دولة كالصومال مثلاً أو الكونجو! وهكذا، فلا الحقائق الاقتصادية في الغرب تستوقفه ولا الحقائق السياسية في الشرق تلفت نظره. ويتناول الواقع العربي فقط من الزوايا المريحة له والمؤيدة لأطروحاته الأيديولوجية، دون أن يدرك تناقضات دعوته الحالمة المدمرة. يقول مثلاً شارحاً الوضع الاقتصادي -الطبقي: "إن إيجابية الطبقة الوسطى ورجال الأعمال في القطاع الخاص في سوريا والأردن ومصر إزاء موضوع السوق المشتركة والسير قدماً في مجال الاندماج الاقتصادي، تشكل قوة ناشئة جديدة تدفع في الاتجاه الإيجابي نحو التوحد. لذلك ومن بين جميع مسارات العمل العربي المشترك يبرز المسار الاقتصادي في المرتبة الأولى، فهو المجال الذي يمكن عن طريقه دفع الأقطار العربية نحو التقارب والتعاون والاندماج لتوسيع السوق للمنتجات المحلية أو لإيجاد فرص عمل للفائض من اليد العاملة الفنية وغير الفنية، ولتوفير رأس مال لاستثمارات جديدة، أو لسد الحاجة إلى المواد الغذائية أو لتوفير المواد الخام، من دون الحاجة لتوفير العملات الأجنبية أو لاكتساب مزايا تنافسية في العلاقات التجارية مع البلدان الأخرى، أو لجميع هذه الأهداف سوية. وبعبارة أخرى لجني منافع التكامل والإنتاج الكبير والسوق الواسعة. لذلك فمن المنتظر جداً أن يكون هذا المسار أكثر الفرص المتاحة أمام الأقطار العربية لسلوك طريق التوحيد التدريجي من خلال الجامعة العربية". ثم ينتقل د. حمادي إلى مؤسسات الجامعة العربية، والتي تتعرض عادة إلى نقد لاذع من الثوريين، فنفاجأ به يشيد بها، ويرى فيها أدوات أساسية في تحقيق الوحدة بين بلدان العالم العربي. فهذه المؤسسات مستمرة ولها كيانها وعلاقاتها، وذات فائدة! يقول د. حمادي: "إن مؤسسات الجامعة العربية المتخصصة تشهد شيئاً من الاستمرارية، وربما شيئاً من التفعيل في مجالات عملها. إذن هناك جواب ضمني أو صريح عن سؤال: كيف تتحقق الوحدة؟ ألا وهو السير في طريق التعاون الطوعي خطوة تلو الأخرى. فالعملية بحد ذاتها إذا ما استمرت يمكن أن تخلق أوضاعاً جديدة ومصالح جديدة تؤدي إلى شكل من أشكال التوحيد". ومن هنا، يطالب د. حمادي بدعم هذا الدور التاريخي لها والتفاؤل بما سينجزه هذا الدور. ويقول مضيفاً: "فلنترك الأمور تسير في طريقها وتأخذ مداها، والأنظمة لابد من أن تتغير بمرور الوقت بأشخاصها وتفكيرها، ومزايا التجمع لابد أن تظهر من خلال الوقت. وبذلك ستجد الأنظمة العربية نفسها في أوضاع تدفعها نحو التوحيد الطوعي والسلمي. فكما أن الدول الأوروبية قد وصلت الآن إلى ما لم تكن تقصده عند خط البداية، وكما أنها تتباين الآن في المدى الذي تريد أن تصل إليه، وبخاصة في موضوع إقامة كيان سياسي واحد يتجاوز السيادة القطرية، ولكنها مع ذلك تتابع المسيرة وتحقق ما تجد فيه منفعة مشتركة واضحة للجميع، كذلك تستطيع الأنظمة العربية أن تسلك الطريق نفسه، وميثاق الجامعة والهيكل القانوني الذي تم بناؤه يؤهلانها لذلك. إنني أرى أنه خيار يجب ألا يُستبعد، ويجب أن يستثمر لأقصى إمكانية. إنني أؤيد السير في طريق تحقيق السوق العربية المشتركة، وأؤيد إكساء الهيكل العظمي بما يحوله إلى جسم حي قادر على الحركة". غير أن هذا النهج المنطقي الهادئ المتدرج القائم على الأساليب القانونية والديمقراطية لا يمثل في اعتقاده إلا وجه الحكومات! أما الشعب فله إرادة أخرى، ولابد أن يحقق الوحدة العربية عبر النهج الثوري!