يستخدم المصريون في دارج لهجتهم كلمة "بيئة" كشتيمة تعني أن المشتوم "البيئة" من وسط متدنٍّ اجتماعياً وربما أخلاقياً وسلوكياً. ولا أدري لمَ ربط المصريون البيئة بالسلبية والقبح، فالبيئة مشتقة من "بوأ"، ومنها جاءت الباءة. ففي الحديث الشريف: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج"، والمقصود بالباءة هنا البيت وتمويله باللازم، والعلاقة بين كلمة البيئة والبيت واضحة في تشابه الشكل وتقارب المعنى. لا تظهر القواميس العربية كلمة بيئة بمعناها الحديث الشامل، وللموضوعية فالمفهوم ببعده العالمي جديد على كل اللغات. وقد اشتقت العربية كلمة بيئة من مصدر ذي علاقة بالمعنى وإن كان أضيق نطاقاً: بوأ. لا نعير البيئة في ثقافتنا كثيراً من الاهتمام، ولا يزال الحديث عن ضرورة الحفاظ عليها يعد غالباً نوعاً من الترف، وربما يشار إليه بأنه "صرْعة" غربية، أو لعلها "مؤامرة" يحيكها الغرب المستعمر لنهب خيراتنا ووقف تطورنا. لا تحتل البيئة والحفاظ عليها في مناهجنا ووسائل إعلامنا مكانتها المطلوبة، ولا نغرس المفاهيم البيئية مبكراً في أطفالنا. ولكن الصورة ليست قاتمة دوماً، فلقد أصبح الحديث عن البيئة شيئاً مألوفاً بين أوساط النخب، وتصدرت مجاميع شبابية -وإن كانت محدودة- في دول عربية عدة مطالب بيئية، وبدأ الشباب يشكلون جمعيات تنادي بالحفاظ على البيئة ووقف الدمار البيئي. وأكثر ما يشد في الرسائل البيئية التوعوية هو في ربطها بصحة الإنسان، والإشارة إلى انتشار مرض السرطان، وظهور أمراض وأوبئة جديدة لم تعرفها البشرية في تاريخها. فالصحة عزيزة وغالية، والتوعية بأن الأمراض الخطيرة سببها التلوث البيئي، وبالذات تلك التي تصيب الأطفال، تضرب على أوتار حساسة لدى أي إنسان له إحساس بالمسؤولية تجاه الطفولة البريئة. ومن عاش الأربعين سنة الماضية في منطقتنا العربية يدرك بلاشك ما لحق بمحيطه البيئي من دمار وتصحر، ومن عاد بالذاكرة قبل ثلاثين عاماً أو يزيد يشعر بمرارة التغيرات وقبح النتائج: أراضٍ مقفرة "جلحاء ملحاء" بعدما كانت خضراء تسرّ الناظرين: أنهار ضمرت، وأهوار جفت، وصحارٍ ترمّلت (تحولت رمالا)، وبحار أحمرّ لونها بعد زرقة، وسماء يحجب صفاؤها الغبار والأبخرة. وقت كتابة هذا المقال، تجتمع أكثر من مئة دولة في العالم بالعاصمة الدانماركية -كوبنهاجن، في مؤتمر عالمي حول البيئة وكيفية تحسين أوضاع هذا الكوكب الذي يعمل الإنسان منذ عقود على تدميره دون هوادة. والأخبار حتى الآن تشير إلى تعثر المفاوضات بين الأطراف الأهم في هذه المعادلة للتقليل من مخاطر انبعاثات الكربون الذي يسحق في طريقه للسماء طبقة الأوزون ويتسبب في ارتفاع حرارة الأرض وذوبان الجليد ومخاطر بيئية وصحية لا حصر لها. البشرية تدرك أن "الخلاص الوحيد، هو بخلاص الجميع"، وأن التعاون في هذا المجال مسألة لا مفر منها. وبدورها تطلب الدول النامية من الدول المتقدمة مساعدتها على التحول نحو اقتصاد أقل اعتماداً على صناعة تنفث الأبخرة والكربون في غلافنا الجوي، والدول المتقدمة تضغط على هذه الدول لتتخلى عن مصانعها المدمرة دون خلق بديل "يوكل الناس عيش" في هذه الدول. تجاوزت الصين الولايات المتحدة الأميركية بنسبة انبعاث الغازات الدفيئة المدمرة، والمشوار طويل لتحويل الطاقة العالمية -وبالذات الصينية- للتكنولوجيا النووية التي من شأنها أن تقضي على الانبعاثات الكربونية والغازات السامة. خارج قاعات المؤتمر آلاف من المتظاهرين يرددون البأبأة بصوت واحد، مناشدين المؤتمرين: بأبي أنتم وأمّي، أنقذوا كوكبنا، وكلهم أمل ألا تبوء جهود المؤتمرين بالفشل واستمرار الدمار لكوكبنا المنكوب. ومن يدري! فقد يقول المصريون يوماً: "يا واد يا بيئة" مديحا لا ذماً واستهانة! د. سعد بن طفلة العجمي