لعل الفكرة الأساسية لكتاب جون جارفر، "الصين وإيران... شريكان قديمان في عالم ما بعد الإمبريالية"، والذي نعرضه هنا بإيجاز، هي أن بكين، علاوة على اقتناعها بالبعد الاستراتيجي لإيران كممر إلى آسيا الوسطى والخليج العربي، وكمورد هائل لإشباع النهم الصيني المتزايد على الطاقة، تنظر إليها بوصفها مؤشر التوازن في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية. ولئن بدأت طهران تدرك جانباً من هذه الرؤية، فإن كمّ ونوع الاستفادة الصينية أكبر مما تحققه إيران على الطرف الآخر من هذه العلاقة. يبدأ الكتاب بسبر معمق في باطن روح العلاقات الصينية -الإيرانية، فيقدم قراءة للتراث الحضاري لكلا الشعبين، وتصوراتهما للقوة والعزة والآخر والمستقبل... مشيراً إلى بعض العوامل التي ساعدت على تقارب تصورات الدولتين، ومنها تجاربهما المرة مع المستعمِرين والغزاة والمتآمرين. ثم يحلل طبيعة العلاقات التي قامت بينهما خلال العقود الماضية، مشيراً إلى أنها حفلت بالعديد من أمثلة التصادم والتعاون البارزة في آن معاً. ففي الفترة التي سبقت عام 1979، كانت الصين الطرف الأشد حماسة لاستمالة طهران إلى جانبها سعياً لإقامة جبهة عالمية تقف ضد التوسع الإمبريالي الاشتراكي السوفييتي، حيث كان شاه إيران متردداً حيال هذا الطريق؛ بينما كانت تستشعر خطر احتمال فرض طوق عليها أو حتى تعرضها لهجوم مباشر من الاتحاد السوفييتي. لكن المواقف اتخذت وضعاً معاكساً بعد عام 1979؛ إذ أمست طهران التي وجدت نفسها بحاجة إلى أصدقاء لمواجهة تدهور علاقاتها الغربية والعربية، هي الطرف الأكثر حماسة لكسب ود بكين، فيما أصبحت الأخيرة مترددة، لاسيما في عهد "دينج شياوبنج" وما قام به من جهوده لإزالة الصورة "الثورية" التي اكتسبتها الصين في عهد "ماو". لقد انصبت رغبة الصين حينئذ على البحث عن القبول كقوة مسؤولة مؤهلة لدخول حظيرة المجتمع الدولي والارتقاء إلى مصاف الأمم الرئيسية في العالم. وكما يوضح المؤلف، فقد مرت فترات عرفت علاقات البلدين خلالها نوعاً من المقايضة المتبادلة؛ فإيران كانت تصر على رهن علاقاتها مع الصين بعلاقاتها مع الاتحاد السوفييتي، كما كانت الصين تصر على رهن علاقاتها مع إيران بمتطلبات علاقاتها مع الولايات المتحدة. لذلك نجد أن ما قدمته الصين من دعم لعلاقاتها النووية والعسكرية مع باكستان جاء أقوى بكثير من ذلك الذي قدمته لإيران في هذين الميدانين. ومما يفسر ذلك أيضاً أن منطقة الشرق الأوسط عامة كانت وإلى وقت قريب تحتل موقعاً ثانوياً على قائمة اهتمامات السياسة الخارجية الصينية، إلا أن هذا الموقع بدأ يتغير في ضوء الطلب الصيني المتنامي على مصادر الطاقة. وعن الرؤية الأميركية للعلاقات الإيرانية -الصينية، يذكّرنا المؤلف بأن الصين شريك ومنافس للولايات المتحدة في آن معاً. فهي تارة تتعاون معها عبر طرق تتعارض مع توجهات السياسة الإيرانية، وتارة أخرى تتعاون مع إيران على نحو لا ينسجم مع السياسة الأميركية. ويبدو أن الأسلوب الذي اتبعته بكين في إدارة التناقضات التي برزت في سياق علاقاتها التعاونية مع كل من طهران وواشنطن قد حقق نجاحاً ملموساً. فبينما واصلت تعاونها العسكري مع إيران وبناء علاقات متينة وواسعة النطاق معها، استطاعت أيضاً التعويل إلى أبعد الحدود على "المُدخلات" الأميركية والاستفادة منها في تعزيز أسس عملية التنمية في الصين. لكن "جارفر" لا يقف عند هذه النتيجة، بل يحاول الوصول إلى نتيجة أخرى حول متانة العلاقات الصينية الإيرانية، وذلك من خلال مسح شامل لعلاقات الصين في محيطها الجيوسياسي: فاليابان كحليف استراتيجي للصين تعد مستبعدة، نظراً لتاريخها الحديث مع الصين. والأمر نفسه بالنسبة للهند، بل يبدو واضحاً أن مصلحة الصين الأهم في جنوب آسيا تكمن في باكستان، الخصم اللدود للهند. والوضع نفسه أيضاً ينطبق إلى حد ما على روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي. وعند مستوى أقل من ذلك تقف أستراليا وإندونيسيا. لذلك تبرز إيران من بين القوى الآسيوية ذات الشأن لتشكل أكثر الفرص ملاءمة بالنسبة للصين. وكما أظهر الكتاب، فإن المحللين الصينيين لم يعثروا في السجل الطويل لعلاقات البلدين على أي حالة من حالات الصراع المسلح بين الدولتين، بل اكتشفوا الكثير من أمثلة التعاون التي ارتكزت على تبادل المنافع، بما في ذلك النقاط التي التقت فيها من حين لآخر مصالحهما الاستراتيجية المشتركة. محمد ولد المنى الكتاب: الصين وإيران... شريكان قديمان في عالم ما بعد الإمبريالية المؤلف: جون جارفر الناشر: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية تاريخ النشر: 2009