يتجدد النقاش في الكويت مرة بعد أخرى، حول قضية بالغة الأهمية في الحياة السياسية والاجتماعية، ألا وهي مسألة تعديل الدستور. فهل ينبغي التمسك بهذا النص القانوني الأساسي كما صدر في 1962/11/11، أم أنه بات بحاجة إلى التنقيح والتعديل؟ مؤيدو تعديل الدستور يشيرون دائماً إلى بعض "الثغرات" و"التناقضات" ونقاط الغموض، ويأخذون عليه عدم إفساحه المجال للحياة الحزبية... وغير ذلك. والخائفون من التعديل يعارضون أي مس أو تغيير بسبب رداءة المناخ السياسي وميل الكفة لتيارات غير متعاطفة أساساً مع الديمقراطية والحريات الاجتماعية، وقد نذهب نطلب قرنين فنرجع بلا أذنين! ومما يؤيد حجج المطالبين بالتعديل أن كافة دساتير العالم قد نالتها يد التعديل والإضافة وما هو أكثر من ذلك. كما أن المجتمع الكويتي اليوم، بعد نصف قرن، وبعد تراكم تجارب عدة عقود، بات بحاجة ماسة إلى إعادة النظر في قانونه الأساسي! وكما يلاحظ المراقب المحايد، فإن المجتمع الكويتي ينزلق منذ فترة ليست بالقصيرة نحو المحافظة والأصولية، وتنمو فيه توجهات قبلية وطائفية وفئوية، وتتراجع فيه التوجهات الليبرالية والعقلانية والإصلاحية... لذلك فإن هذه القوى أو بقاياها، ستخسر معركة "تعديل الدستور". وقد تطرح التيارات الدينية الشورى بديلاً للديمقراطية، أو تبدأ حملة للتخلص من الدستور ذاته! فالمادة السادسة من الدستور مثلاً تقول إن "نظام الحكم في الكويت ديمقراطي، السيادة فيه للأمة مصدر السلطات جميعاً". والمادة الخامسة والثلاثون تنص على أن "حرية الاعتقاد مطلقة، وتحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان طبقاً للعادات المرعية، على ألا يخل ذلك بالنظام العام أو ينافي الآداب". والمادة التي تليها تعتبر "حرية الرأي والبحث العلمي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما". إن البحث في تاريخ كتابة الدستور الكويتي، وما رافق وضعه وصياغته من حوارات وصراعات، تدل على أن هذا النص كان بحق ولا يزال "فلتة تشريعية" قد لا تتكرر في كل الظروف، خاصة ونحن نرى بعض القوى المتزمتة تطالب بإلغاء "القوانين الوضعية" العادية، فما بالك بالدستور! نشرت صحيفة "القبس" الكويتية في يونيو 2009 عدة حلقات من حوار شارك فيه علي الرضوان، أمين عام المجلس التأسيسي، وسكرتير لجنة الدستور وأمين عام أول مجلس للأمة. فهو إذن شاهد عيان تابع "ولادة" الدستور الكويتي، ومما قاله: "صاحب الفضل الأساسي في ظهور هذا الدستور هو المرحوم الشيخ عبدالله السالم الصباح... فقد كان في ذهنه من بداية أول يوم حكم فيه مشروع تحويل هذه الإمارة إلى دولة. لذلك بدأ بكل الأشياء التي توقف موضوع العشائرية، وأضرب مثلاً عندما بدأ البترول في الكويت يأتي بعوائد مجزية، كان عبدالله مبارك الحاكم بأمره، وفهد السالم الحاكم بأمره، أما عبدالله السالم فأراد ضبط المالية، فجاء بالشيخ جابر الأحمد ووضعه وزيراً للمالية، وكانت النتيجة بعد فترة أن جاء جابر الأحمد وقال إنه لا يستطيع إدارة المالية لأن هناك شيكات تسحب منها، وبعدها قام عبدالله السالم بمواجهة كبار أفراد الأسرة، ونتج عن ذلك خروج بعضهم من الكويت، وكان يقول إنه يجب أن نعمل نظاماً للميزانية وللدخل، نريد عمل دولة فيها ميزانية ليست للأسرة، وإنما للبلد، فكانت لديه هذه الفكرة. في تلك الفترة بدأت المجالس في الكويت، وكل مجلس كان يصطدم بالشيخ فهد السالم وغيره، فقال عبدالله السالم: لماذا لا يكون هناك مجلس منتخب مستقل وله كيان، فبدأت فكرة وضع دستور وسن نظام أساسي للدولة". يقول الرضوان: "الأمور لم تكن دائماً تسير بهدوء. مرة من المرات مضينا وخلصنا ثلثي الدستور، وجاء الشيخ سعد وقال:"هذه المواد اللي موافقين عليها أنا فكرت فيها، أنا غير موافق عليها، نرجع من أول وجديد". وهنا ذهب عبداللطيف الغانم (أبو بدر) إلى عبدالله السالم، فقال له الشيخ: أكملوا عملكم حتى تهدأ الأمور. وعندما كنا نناقش مخصصات الأمير، اقترح الشيخ سعد أن يتم تحديد نسبة للأسرة الحاكمة، وذكر الحكم المقرر في قطر، وهو أن يكون ربع الدخل للأمير وربع للأسرة، وربع للحكومة، وربع للاحتياطي. فاحتج الأعضاء وذهب أبو بدر إلى الشيخ عبدالله السالم الذي قال: المخصصات تحدد بقانون ولا تزيد على عشرة ملايين دينار، فقال له أبو بدر إن حمود الزيد ويعقوب الحميضي يقترحان أن يكون المبلغ خمسين مليوناً مراعاة لوضع الأسرة، فقال: لا تزيدون على عشرة ملايين دينار فالأسرة بخير ووضعهم جيد". وعن موقف النخبة التي وضعت الدستور، قال الرضوان: "في المراحل النهائية من إعداد الدستور، كنا في جلسة ودية في المجلس التأسيسي ضمّت عدداً من الأعضاء، قال لهم الغانم: هل هذا الدستور هو الذي تريدون؟ قالوا ليس هذا هو الدستور الذي كنا نريده. كنا نريد أن يكون للشعب دور أكبر في تشكيل الحكومة واختيار رئيس مجلس الوزراء. كنا نريد ضمانات أكثر في موضوع حل مجلس الأمة، هذا الدستور فيه كثير من المشاكل والمماسك. فوقف أبو بدر منزعجاً وقال، أنا كنت عضواً في مجلس 1938، وبالتأكيد ليس هذا طموحنا، لكن قارنوا بين وضع ليس فيه أي ضمانات ووضع فيه بعض الضمانات. فقالوا: حتى هذه لا نضمن استمرارها". وبعد أن أُقر الدستور في المجلس التأسيسي، يقول الرضوان: "طلب أبو بدر إعداد نسخ من مشروع الدستور لعرضها على سمو الأمير. فقلت له أعطونا وقتاً كافياً لإعداد نسخ لائقة يخطها خطاط جيد". ويضيف: "ثم ذهبت مع أعضاء اللجنة حاملاً نسخ الدستور، وكنت قد أعددت أقلاماً ذهبية لاستخدامها في حفل التصديق. ولدى وصولنا سألنا سموه: هل هذا ما يريده الكويتيون؟ فقال أبو بدر: لقد انتخبوا مجلساً والمجلس أقر هذا الدستور. وطلب مني سموه قلماً، فقلت له: يا طويل العمر التصديق خلال شهر، وقد طلبنا أقلاماً خاصة لذلك، والقلم الذي معي لا يليق بك. فقال: يا ابني إنه يؤدي الغرض ولا داعي للانتظار مادام هذا ما يريده الشعب. ووقع سموه على النسخ، وسلمها للمرحوم عبداللطيف ثنيان الغانم". وهكذا ولد الدستور الكويتي.