على رغم قناعتي بأهمية تعزيز الشراكة مع أوروبا عبر المتوسط لكونه حوض التفاعل الحضاري العريق الذي ضم أمماً عديدة خاضت سفنها في خضمه، وحملت معها ثقافاتها التي تلاقحت على شواطئه، فقد سررت لقيام رابطة للمدن الكنعانية التي عقدت مؤتمرها الثاني في جبيل أواخر أكتوبر من العام الحالي 2009 وشاركت فيه اثنتان وثلاثون بلدية عربية وأوروبية، حيث أجد من الضروري إبراز ريادة الكنعانيين في البحر المتوسط لأنهم مؤسسو هذه الحضارة التي ما تزال حية في المدن التي بنوها على امتداد شواطئه امتداداً إلى الخليج العربي. وأعتقد أن أفضل الشراكات هي تلك التي تقوم على أسس ثقافية تجعل التعارف بوابة لتطوير مختلف العلاقات بين الشركاء، وثمة أمم في أواسط آسيا يجمعنا معها تاريخ حضاري عريق، وهي تبحث اليوم عن هويتها القومية والوطنية فتجدها في التراث الإسلامي الذي أسهمت في بنائه قروناً مديدة، وكانت مؤسِّسة فيه، وأخص الأمم التي فصلتها عن جذورها التاريخية الحضارية حروب وأحداث وتبعيات مختلفة، نهضت منها لتبني حضورها الاعتباري في العالم، وبدأت تتلمس الطرق الأسرع لاستعادة تراثها، وهي تحرص على أن تجد الأجيال الجديدة عندها مناهل ثقافية تصل ما انقطع بينها وبين ماضيها. وقد لمسنا هذا التوجه عند الشعوب التي انفكت من عقد الاتحاد السوفييتي لتواجه طغيان العولمة التي رفضتها بصائر هذه الشعوب وأدركت أنها تطمس الهويات والقوميات، فبدأت البحث عن تاريخها الخاص ليس لكي تعود إليه، وإنما لكي تستلهم منه جذورها وملامحها الحضارية. وهذا ما نجده في أذربيجان وتركمانستان، وكازاخستان وقرغيزستان، وسواها من البلدان. وأجد من الضروري أن يسهم العرب في إحياء الذاكرة الوطنية لهذه البلدان التي كان لعلمائها ومفكريها ومبدعيها دور كبير في إثراء الحضارة الإسلامية، لأن كثيراً مما ألفه علماء هذه الأمم مكتوب باللغة العربية، ومحفوظ لدى العرب وبعضه ما يزال مخطوطاً إلى اليوم. وقد وجدنا تلهفاً لدى هذه الشعوب نحو تمتين قواعد التواصل مع الأمة العربية، كما وجدنا اهتماماً باستعادة هذه الذاكرة من المسؤولين الثقافيين والسياسيين. وعلى سبيل المثال أذكر اهتمام كازاخستان بضريح الفارابي بدمشق وبالمكتبة الظاهرية، وقد فوجئت بأن صورة الفارابي باتت رمزاً في العملة المحلية الكازاخية. كما أذكر اهتمام أصدقائنا الآذريين بضريح وتكية الشاعر عماد الدين نسيمي في حلب، واهتمامهم بضريح فضولي بغدادي مؤسس الشعر التركماني في العراق، والأمثلة أكبر من أن تحصى، فقد ضم بلاط سيف الدولة في حلب كوكبة من أعلام الأمة هم من مختلف الشعوب التي دخلت الإسلام وصبت عصارة عقولها في حضارته. كما أن بيت الحكمة في بغداد كان أكاديمية ضخمة اجتمع فيها عباقرة الأمم المسلمة وغير المسلمة، ذاك أن الحضارة الإسلامية لا تستبعد إنتاج غير المسلمين فيها، فقد كانت حاضنة لكل المبدعين حتى من غير أهل الكتاب، مثل الصابئة الذين كان منهم العالمان الشهيران ثابت بن قرة والبتاني، هذا فضلاً عن المساهمة الضخمة من المسيحية العربية التي كانت شريكاً مؤسساً في هذه الحضارة وأخص السريان الذين ترجموا علوم اليونان. ولم تستبعد حضارتنا اليهود ومساهماتهم الحضارية بل إن الحضارة الإسلامية هي التي حفظت لليهود حضورهم الثقافي التاريخي، ويذكر المؤرخون حالة المثاقفة المتسامحة التي أحيتها الحضارة الإسلامية وتقبلها يهود الأندلس الذين تأثروا بالفكر الإسلامي وترجم كثير منهم مؤلفات المسلمين من أمثال ابن طفيل وابن رشد إلى اللغات الأوروبية كما فعل أبراهام بن عزرة الذي ترجم "حي بن يقظان". وقد برز في الثقافة العربية مؤلفون يهود من أمثال موسى بن ميمون اليهودي (الرئيس) كما سماه الشيخ الرئيس ابن سينا، وقد اعتبر العرب ابن ميمون فيلسوفاً إسلامياً كما أطلقوا لقب (الرئيس) على حنين بن إسحاق، دون نظر إلى اختلاف الديانات. ونذكر من مثقفي اليهودية سعدية كؤون الذي اشتهر في علوم اللغة والفقه وعلم الكلام، والمقمّص الذي درس الأفلاطونية العربية، وسلمون بن جبرول ويهوشع بن يهودا ويوسف البصير الذين تأثروا بالفكر الظاهري. وهناك من اليهود من تأثروا بالصوفية العربية، والحديث يطول، مما يؤكد انفتاح الحضارة الإسلامية على كل الثقافات، وقبولها لحوار كل التيارات، دون أن يتعارض ذلك مع الموقف الفقهي الإسلامي. وهذا الانفتاح الفكري هو أهم سمة للحضارة الإسلامية التي ما تزال إلى اليوم قادرة على أن تجدد كونها رابطة ثقافية مهمة بين الأمم والشعوب التي أسهمت في بنائها. ولعلي لم أذكر إيران وتركيا لأنهما تعلنان الانتماء الواضح إلى الحضارة الإسلامية، وهما قريبتان كثيراً من العرب، والتاريخ المشترك معهما ما يزال قائماً ومتصلاً، ولم تضعف التحولات السياسية التي مرت بها كل من إيران وتركيا حضور الثقافة الإسلامية لدى الشعبين التركي والإيراني، كما حدث في بلدان أخرى لم يكن يسمح فيها بإعلان هذا الانتماء. ولئن كانت الدعوة إلى إحياء هذه الشراكة بين الأمم التي أسهمت في الحضارة الإسلامية قائمة من خلال منظمة المؤتمر الإسلامي، ومنظمة التربية والعلوم والثقافة "الإيسيسكو" التي تقوم بجهد ضخم في الحفاظ على مكونات الحضارة الإسلامية في العالم كله، فإن ما ندعو إليه هو تعزيز التواصل بين مراكز هذه الحضارة وبين الشعوب الباحثة عن تراثها وتاريخها وهويتها التي حفظتها لها هذه الحضارة. وهنا أقترح تأسيس مركز بحوث يختص بدراسة إحياء هذه التشاركية، وتنقيتها مما طرأ عليها من تراكم، أو تسرب إليها من أوهام، ولقد أتاح برنامج العواصم الإسلامية الذي تشرف عليه الإيسيسكو فرصة واسعة أمام مدن كاد المسلمون ينسون دورها في حضارتهم، وقد عادت إلى الذاكرة الحية مثل (باكو) التي احتفلنا بها هذا العام 2009 ووجدنا فيها تراثاً ضخماً من حضارتنا الإسلامية، ومثل(تمبكتو) في دولة مالي التي عثر فيها على عشرات الآلاف من المخطوطات الإسلامية التي تعد ثروة كبرى للباحثين وهي تعد بمستقبل حضاري يتجدد لهذه العاصمة الإفريقية التي لم تكن معروفة لدى غالبية المسلمين بوصفها مركزاً من مراكز إنتاج الحضارة. ولعل سر نجاح برنامج العواصم الثقافية الإسلامية هو وضوح الهدف المنشود الذي عبر عنه المدير العام للإيسيسكو الدكتور عبدالعزيز التويجري حين قال: "إن المقصود من هذا البرنامج هو استثمار العطاء الثقافي لهذه العواصم في بناء الحاضر والمستقبل، على العناصر المستلهمة من هذه الحضارة التي هي إرث للإنسانية جمعاء".