عندما قرر الاتحاد السوفييتي سحب قواته أخيراً من أفغانستان عام 1989، خلف وراءه دولة مزقتها الحرب وسرعان ما دخلت في أتون حرب أهلية مرعبة، لتصل حركة "طالبان" إلى سدة الحكم هناك في نهاية المطاف. في ذلك الوقت تفادت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها المقربون في المنطقة والمتعاونون معها في توفير الدعم الرئيسي للمجاهدين الذين كانوا يخوضون الحرب ضد قوات الجيش الأحمر السوفييتي في أفغانستان، التورط في المأزق الأفغاني، وتخلوا جميعاً عن أفغانستان إثر الانسحاب السوفييتي. وبالنتيجة فقد تحولت أفغانستان إلى دولة فاشلة توفرت فيها أفضل الظروف المثالية لانتقال مقاتلي تنظيم "القاعدة" وقيادته بمعسكرات تدريبهم وخططهم الإرهابية للإقامة فيها والانطلاق من داخل أراضيها لتنفيذ عملياتهم فيما بعد. ومن فوق جبال أفغانستان تم تدبير هجمات 11 سبتمبر التي نفذت داخل الأراضي الأميركية في عام 2001. واليوم تحاول الولايات المتحدة الأميركية، ومعها 43 دولة أخرى من حلفائها، من بينهم 28 من أعضاء حلف "الناتو"، و15 دولة من خارجه، الحيلولة دون سقوط أفغانستان مجدداً في قبضة الحكم الطالباني. وكما نلاحظ فإن أحد أقوى المبررات لاستمرار العمليات العسكرية الجارية حتى اليوم هناك بقيادة أميركا وحلفائها الدوليين، هو منع عودة حركة "طالبان" إلى حكم كابول، بما يفتح الباب تارة أخرى أمام عودة تنظيم "القاعدة" إلى أفغانستان، حيث تتوفر له الملاذات الآمنة وميادين الانطلاق نحو عمليات أشد وحشية ودموية ضد خصومه الغربيين عامةً وأميركا على وجه الخصوص. ثم هناك الصومال، وهي نموذج آخر للدولة الفاشلة، إذ ظلت تجتاحها الحروب الأهلية والنزاعات المسلحة منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي وإلى اليوم. وليست المشكلة الأمنية التي تواجهها الصومال قاصرة على النزاعات الداخلية من أجل السلطة والحكم فحسب، إنما تشمل كذلك سواحلها الممتدة لنحو 3 آلاف كيلومتر يسرح فيها ويمرح لوردات الحرب كما يشاؤون، وإلى جانبهم هناك مئات القراصنة الذين ينشطون في المياه القريبة من سواحلها حيث يقومون باعتراض السفن التجارية التي تمر من هناك في طريقها إلى السواحل الغربية من المحيط الهندي، وهي سفن ثمينة تدر عليهم بملايين الدولارات. هذا وتشير التقارير إلى أن نسبة 50 في المئة من هجمات القرصنة التي تتعرض لها السفن التجارية المارة بتلك السواحل لا يكشف عنها خوفاً من أن يؤدي ذلك إلى إلحاق أضرار بالغة بسمعة وتدفق التجارة البحرية في تلك المياه. كما تشير المعلومات المتوفرة إلى أن نسبة 75 في المئة من تلك الهجمات تعود إلى أطقم السفن الداخلية، بمشاركة قبطان السفينة شخصياً. وبسبب الفقر المدقع الذي تعانيه الصومال، إلى جانب الغياب التام تقريباً لسلطة الحكم المركزي، فقد تحول نشاط القرصنة إلى نشاط استثماري حقيقي. ويذكر أن القراصنة الصوماليين عرفوا بنشاطهم المحموم، وبقدرتهم على توسيع وتنويع غنائمهم التي شملت الناقلات النفطية، إضافة إلى السفن التجارية وتلك التي تحمل شحنات الأسلحة المربحة. وكان الكثير من هؤلاء القراصنة صيادي أسماك تقليديين فقدوا مصدر رزقهم ومعيشتهم بسبب الفوضى التي عمت سواحلهم وسمحت لعمليات صيد الأسماك الأجنبية بسرقة أسماكهم دون وجه حق قانوني. ومما يذكر أيضاً أن السواحل الصومالية ظلت طيلة السنوات الماضية تتعرض لانتهاكات خطيرة جراء بعض العمليات الأجنبية وأنشطة السفن التي تلقي بكميات كبيرة من النفايات السامة في تلك السواحل، مقابل مبالغ مالية تدفع لبعض لوردات الحرب المتحكمين في مقاطع من سواحل البلاد، مع العلم أنها مبالغ أقل بكثير مما يجب أن تدفعه تلك الدول أو الشركات مقابل ممارستها الصيد أو إلقاء النفايات السامة في المياه الإقليمية الصومالية. وقد طفح بعض تلك النفايات إلى السطح إثر موجات التسونامي العاتية عام 2005، لتحدث تأثيرات صحية بالغة على الكثير من المواطنين. وبعد أن تحولت القرصنة إلى خطر أمني جدي يهدد الملاحة البحرية في السواحل الصومالية، اضطرت في العام الماضي "القوات البحرية الدولية"، وهي القوات الدولية المعنية بمكافحة القرصنة، للتدخل بعملياتها هناك. وقد تشكلت هذه القوات بقيادة الولايات المتحدة الأميركية وبمساهمة من 22 دولة بينها بريطانيا، وفرنسا وألمانيا، وإيطاليا، والدنمارك، وأستراليا، ودول مجلس التعاون الخليجي، وباكستان... إلخ. ولهذه القوة الدولية حوالي 45 سفينة و15 طائرة تقوم بمهام الاستطلاعات والدوريات البحرية، يلاحظ أن ثلثها تقريباً ليس مملوكاً لأميركا. وإلى جانب الدول المذكورة، تساهم الصين والهند بنصيب مقدر من هذه العمليات. ورغم هذا الوجود الدولي الكثيف لقوات مكافحة القرصنة في السواحل الصومالية، يلاحظ أن نشاط القرصنة شهد ارتفاعاً هائلاً ومثيراً للقلق. وبسبب طول تلك السواحل وانعدام أي سيطرة حكومية وطنية عليه، فإنه من الطبيعي أن تعجز أفضل القوات البحرية العالمية عن السيطرة عليه. وسواء بسبب النزاعات الدموية والحروب الأهلية التي أوقعت أفغانستان تحت سيطرة "طالبان" ثم تنظيم "القاعدة"، أم بسبب النزاعات نفسها التي سلمت مقاليد السلطة الحقيقية إلى أيدي لوردات الحرب والقراصنة في الصومال، فإن في النموذجين من خطر الدولة الفاشلة على الدول الإقليمية المجاورة لها، ما يكفي للفت نظر خبراء الأمن الدولي لأهمية الخطر الأفغاني على استقرار باكستان. وفيما لو لحقت باكستان بعضوية الدول الفاشلة، سواء بسبب نشوب النزاعات والحروب الأهلية فيها، أم جراء وقوعها تحت سيطرة إحدى الحركات أو الجماعات الراديكالية مثل "طالبان"، فإن من شأن ذلك أن يزعزع الاستقرار الإقليمي بأسره، طالما أن الخطر الأمني الذي يتهدده سوف يكون أسوأ من أفغانستان والصومال بكثير. ذلك أن لباكستان ترسانة نووية ضاربة يخشى منها، كما أن تعدادها السكاني يفوق ما لروسيا من كثافة سكانية كبيرة. والحقيقة أن لتصور هذا السيناريو المرعب لدولة باكستانية فاشلة ما يبرره، نظراً لضعف حكومة إسلام آباد المنتخبة ديمقراطياً، إضافة إلى هشاشة الاقتصاد الوطني وتزايد مخاوف النخب المتعلمة من أن تتخلى واشنطن عنها وعن بلادها مثلما فعلت من قبل مع أفغانستان في عام 1989. لكن من المستبعد جداً أن تكرر الولايات المتحدة ذلك الخطأ، على أن يظهر الجيش الباكستاني ما يكفي من الالتزام بسحق المتطرفين وهزيمتهم، بدلاً من إنفاق ميزانيته الدفاعية -التي تسهم الولايات المتحدة الأميركية بنصيب مقدر من المساعدات فيها- على الإعداد لحرب جديدة مع عدوه التقليدي الهند.