مآذن المساجد وأجراس الكنائس وأبواق المعابد، كل هذه المعالم الدينية والعلائم الدالة على أصل المعتقد، ليست أسلحة دمار شامل، تتناولها العلمانية الغربية بعدم التسامح، لأن التخلص من الرموز الدينية عن طريق الاستفتاءات ليس مخالفة لأسس العلمانية فحسب، بل مناقضة أكثر لنصوص الدساتير الغربية، وهنا يكمن وجه المفارقة والغرابة. فبدعوى محاربة الأصولية والتطرف والعنف والكراهية يمارس الغرب ذات الدور الواضح تجاه الإسلام المسالم، ويعاقب الدين السمح بتصرفات أفراد، ولو استمر هذا الوضع في الغرب العقلاني والعلماني على هذا النحو فإن نبرة العنصرية والكراهية و"النازية" المعاصرة سيشتد أوارها، وهو لا يساهم في إرساء دعائم السلم العالمي بين مختلف الشعوب باختلاف أديانها ومعتقداتها. فإذا استمرت العلمانية "المتطرفة" في الغرب على هذا المنوال في حظر المآذن والحجاب والنقاب وغيرها من جزئيات الدين لدى أي طائفة، فإن الجهود التي تبذل في الدول العربية والإسلامية نحو الاعتدال ستصاب بالشلل، فإذا كان أهل الدار عاجزين عن ضبط موازين الدين لدى أفرادها، فإن الغرب وفق الفكر العلماني المتطرف أعجز لأنها تتعامل مع جزئيات الدين في سياق الإلحاد والجحود وليس في ترك حرية المعتقد لصاحبه. فاليمين المتطرف بدأ ينفث فكره منذ الإساءة لنبي الإسلام، صلى الله عليه وسلم، عبر الرسوم المسيئة والصادمة لدين أكثر من مليار من المسلمين وتحت مسمى حرية التعبير، فاليوم لا يملك المسلم المسالم في أوروبا هذه المساحة للتعبير عن دينه دون إدانته. فالرموز والمعالم والعلائم غدت أدوات إدانة شاخصة لممارسة شعائر الإسلام في مجتمعات لم تكن في يوم من الأيام أرضاً لمعركة تدار بين الإسلام والمسيحية واليهودية أصلاً ولا العلمانية المتطرفة. فمن واجب عقلاء الغرب قيادة المجتمعات نحو السلم الاجتماعي، فالعقد الاجتماعي الذي أرسى دعائمه جان جاك روسو، والذي أنهى مجازر ثلاثة قرون بين السويسريين، يجب أن يعود إلى قيادة المجتمع المدني بكل أطيافه. والمفارقة كبيرة إذا كان سبعة ملايين سويسري يخشون من أسلمة سويسرا عن طريق أكثر من ثلاثمائة ألف مسلم يعيشون في أرض الديمقراطية العريقة لأسباب معروفة لدى الجميع، فهؤلاء منشغلون بحياتهم اليومية أكثر من التفكير في أسلمة أوروبا، وما يقال عبر القنوات الإعلامية لا يعدو كونه نفخة في قربة مقطوعة، والهدف منه الإثارة السلبية، لأن الأنظمة العلمانية في أوروبا ذاتها ليست فيها مقومات نظام إسلامي، فلم هذا الخوف المضخم من وجود مسلمين في أوروبا. فإذا كان سبعة ملايين سويسري يخشون من ثلاثمائة ألف مسلم فعلى هؤلاء أن يراجعوا أنفسهم ليس عبر طمس معالم التنوع الثقافي والديني في مجتمع هجين أصلاً، وهو عنصر قوة هنا لأنه استطاع أن يذيب الفوارق في بوتقة الدولة الواحدة وسقف المواطنة الذي يحمي الجميع من أن يخر عليهم. إن حظر المآذن لاشك صادم لكل متتبع لأوضاع المجتمعات المتسامحة مع الديانات المختلفة في سويسرا وفرنسا وبريطانيا وعلى رؤوسهم أميركا الآن، التي أقر رئيسها أوباما في خطابه إلى العالم الإسلامي بأن المسلمين الأميركان جزء من نسيج أميركا وتاريخها وتراثها، فهم ليسوا غرباء بل أصلاء في بناء الوطن الواحد للجميع. إن صوت العقل الرشيد يجب أن يعلو منابر الغرب الإعلامية بالتخفيف من حدة الألسنة، وأسنة الأقلام الحداد هو البلسم، والتطرف في العلمانية لا يقل سوءاً عن التطرف في أي دين، فالمعالجات يجب أن تخالطها الحكمة، وليس كما حدث في سويسرا باسم الديمقراطية والعلمانية، فكل ذلك لا يليق بمقام الديمقراطيات العريقة في الدول المتقدمة، ويجب هنا وقفه، قبل أن يذهب الجميع ضحية لطوفان التطرف من الجانبين.