اعتاد السودانيون على التعايش مع أسلوب "حافة الهاوية" في الصراع السياسي، لاسيما المواجهات التي لا تنتهي بين شريكي الحكم، حزب "المؤتمر الوطني" و"الحركة الشعبية". حدث هذا في الماضي، وكانت آخر ممارسات حافة الهاوية في الأسبوع الفائت عندما سيّرت "الحركة الشعبية" وأحزاب المعارضة مظاهرات سلمية كانت تطالب بتعديل القوانين المقيدة للحريات وغيرها، لتواجهها السلطة (المؤتمر الوطني) بالقوة وتفرقها قبل أن تبدأ باعتقال عدد من الذين كانوا يتقدمون الصفوف، ومنهم بعض قادة "الحركة الشعبية". لقد تأزم الموقف يومذاك حتى خشي كثيرون أن تكون تلك بداية إنهاء الشراكة بين الحزبين، مما يعني نقض اتفاقية السلام والتهديد بما قد يترتب على ذلك. لكن ما حدث هو أن قادة "المؤتمر الوطني" دعوا لاجتماع عاجل بعد أحداث صباح الاثنين الموافق السابع من ديسمبر الجاري وجلسوا مع قادة "الحركة الشعبية" طيلة يومين انتهيا بإعلان الطرفين الاتفاق حول بعض القضايا التي كانت سببا في المواجهة، وهي: * القانون الذي سينظم استفتاء تقرير المصير في الجنوب، والمقرر إجراؤه عام 2012. * تنفيذ ما توصلت إليه المحكمة الدولية حول مشكلة أبيي الحدودية. * التشاور الشعبي مع أهل منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق للوصول إلى تسويات في حالة تصويت الجنوبيين لصالح الانفصال. وكان كثيرون من أبناء هاتين المنطقتين قد شاركوا في القتال خلال الحرب الأهلية ضد الحكومة المركزية. ويلاحظ هنا أن القضايا الأخرى التي يطالب الجنوبيون وأحزاب المعارضة بحسمها، قد أهملت وأُجّل النظر فيها إلى مرحلة لاحقة. ويستنتج بعض المراقبين أن حزب "المؤتمر الوطني" قصد أن يتبع هذا النهج في محاولة لشق صف ما يسمى "أحزاب إعلان جوبا" التي تضم "الحركة الشعبية" ومعها عدد من أحزاب الشمال المعارضة، بما فيها "حزب التحرير" (وهو من مجموعات دارفور التي حملت السلاح في وجه الحكومة ثم توصلت معها لاتفاق سلام في إطار ما يعرف باتفاق أبوجا). ولعل الحزب الحاكم باتباع ذلك التكتيك، كان يهدف أساساً لإلغاء المظاهرة السلمية التي كان من المقرر أن تُسيّرها أحزاب "إعلان جوبا" صباح يوم الاثنين الموافق الرابع عشر من هذا الشهر. وأياً كان الأمر فإن ذلك الأسلوب أو التكتيك لم ينجح، وخرجت مظاهرات يوم الاثنين الماضي في موعدها وبمشاركة "الحركة الشعبية". وكما حدث في يوم الاثنين الذي سبقه، فقد واجهت السلطة تلك المظاهرات السلمية بالقمع وتم اعتقال نحو أربعين من قيادات أحزاب المعارضة، ومنهم الدكتورة مريم الصادق المهدي مساعد السكرتير العام لحزب "الأمة". انتهت بذلك على كل حال آخر حلقة من حلقات نهج حافة الهاوية التي عرفها السودانيون وصارت ممارسة تتكرر كل ما تصاعد الخلاف بين حزب "المؤتمر الوطني" و"الحركة الشعبية". ويبقى أن نرى كيف سيتصرف الحزب الحاكم في معالجة ما تبقى من قضايا يتبناها مجموع أحزاب إعلان جوبا وهي بالتقريب: * قانون أمن الدولة الذي يريد الحزب الحاكم أن يُبقي عليه كما هو وكما كان في أيام حكم الحزب الواحد، ويرى المعارضون تعديله ليكون متلائما مع الدستور والاتفاقية. * قوانين النقابات، والاختلاف حولها مشابه للاختلاف حول قانون الأمن. * الاتفاق حول سياسة قومية تشارك فيها كل القوى السياسية لإنهاء أزمة دارفور، والحزب الحاكم يريد مواصلة الانفراد بالأمر. * إلغاء أو تعديل كل القوانين والأوامر التي تعيق إجراء انتخابات عامة حرة ونزيهة، ومن ذلك إيقاف احتكار الحزب الحاكم لوسائل الإعلام التابعة للدولة كالإذاعة والتلفزيون. مرحلة دقيقة في مسيرة الحياة السياسية في السودان، وغدا سيحكم التاريخ ويشهد لمن أساء ولمن أحسن، والأمر ما يزال بيد من بيدهم السلطة والتحكم في الأمور.