"شيء ما عفنٌ في دولة الدانمارك". هذه العبارة المشهورة في مسرحية "هاملت" للكاتب الإنجليزي شكسبير، استخدمها معلق صحيفة "نيويورك تايمز" جون برودر لتصوير فساد الموقف الأميركي من "مؤتمر المناخ العالمي" المنعقد في العاصمة الدانماركية كوبنهاجن. أعضاء الحزب الديمقراطي الأميركي في مجلسي الكونجرس والشيوخ منقسمون على أنفسهم أيديولوجياً وجغرافياً، وحسب المصالح الاقتصادية التي يمثلونها، والجمهوريون يعتبرون خطة أوباما لتقليل انبعاث الغازات مؤامرة شيوعية! ما الرسالة التي يحملها الرئيس الأميركي للاجتماع الختامي لمؤتمر كوبنهاجن غداً؟ هل يكرر على مسامع زعماء 120 دولة يحضرون الاجتماع تحذيره قبل عام من أن "التأخر عن مواجهة تغير المناخ العالمي لم يعد خياراً، والإنكار لم يعد مقبولاً"؟ أم يبتكر نظرية عن انبعاث "الغازات من أجل المناخ" مماثلة لنظرية شن الحرب في أفغانستان من أجل السلام، والتي برر بها منحه جائزة نوبل للسلام؟ أم يخفي التزاماته، حسب مصادر المؤتمر التي توقعت أن تكتم واشنطن تعهداتها لمساعدة البلدان النامية على خفض انبعاث الغازات الدفيئة والتكيف لخطر ارتفاع الحرارة العالمية؟ وما قيمة تعهدات غير موثوقة لرئيس دولة انسحب سلفه من اتفاقية "كيوتو" التي استغرق إعدادها ثمان سنوات، وصادقت عليها 187 دولة؟ وتقوم اتفاقية "كيوتو" على أساس أن غازات ثاني أوكسيد الكربون التي تنبعث عن حرق وقود النفط والفحم والغاز تتراكم حول الكرة الأرضية، كالغرف الزجاجية لاستنبات النباتات، وتحبس الحرارة العالمية، وتهدد بكوارث الجفاف والفيضانات والأعاصير وارتفاع مستويات البحار. وما تزال الولايات المتحدة، التي تُعتبرُ المسؤولة الأولى عن الكارثة المحتملة، تطلق أكثر من عشرين في المائة من الغازات. اللائحة التي وافق عليها الكونجرس الأميركي هذا العام تتعهد بخفض إطلاق الغازات بنسبة 17% عام 2020 مقارنة بمستوياته عام 2005، لكنها لن تكون نافذة ما لم يوافق عليها مجلس الشيوخ، ولن يوافق، حسب جميع التوقعات. ومبلغ 80 مليار دولار الذي خصصه أوباما لتشجيع صناعة السيارات الأميركية وغيرها من الصناعات الملوثة على تطوير تقنيات خفض انبعاث الغازات بنسبة 30%، لن ينقذ عشرات البلدان التي يهددها خطر الاختفاء بسبب ارتفاع مستوى مياه البحار. "مؤتمر كوبنهاجن" يقدم الفرصة الأخيرة للتوصل إلى اتفاقية جديدة تعقب "اتفاقية كيوتو" التي ينتهي العمل بها عام 2012. وأيّ اتفاقية جديدة ستحتاج إلى سنوات عدّة حتى تصادق عليها برلمانات الدول، وتشرع لها قوانين تضعها في موضع التنفيذ، كما بيّنت تجربة "اتفاقية كيوتو" التي تم الاتفاق عليها عام 1997 ولم يبدأ تنفيذها إلا عام 2005. هل يعلنُ زعماء العالم في اجتماعهم غداً تمديد العمل باتفاقية "كيوتو" فترة كافية لتغطية الفجوة الزمنية حتى موعد تنفيذ الاتفاقية الجديدة، والتي لا يتوقع أصلاً الاتفاق على نصها النهائي إلا في وقت متأخر من السنة القادمة؟ النزاعات حول ذلك جعلت "مؤتمر كوبنهاجن" ميداناً لتبادل التهديدات والاتهامات بين الأطراف الرئيسية للاتفاقية. اليابان تهدد بالتراجع عن تعهد رئيس وزرائها بخفض انبعاث الغازات عام 2020 بنسبة 25% مقارنة بعام 1990 ما لم ينص تمديد العمل باتفاقية "كيوتو" على النسب التي تلتزم بها الصين والولايات المتحدة لخفض انبعاث الغازات. الاتحاد الأوروبي رفع المعنويات في الأسبوع الماضي حين تعهد بتقديم عشرة مليارات دولار خلال السنوات الثلاث القادمة لمساعدة الدول الفقيرة على مواجهة مشكلة التغير المناخي، لكنه أعلن أخيراً عن تعليق ذلك على تعهدات مماثلة للولايات المتحدة والدول الصناعية الكبيرى الأخرى. وشكلت شروط روسيا للموافقة على الاتفاقية الجديدة مفاجأة مثيرة لا تقل عما اعتبرته المجلة العلمية الدولية "نيتشر" Nature "انعطافاً تاريخياً" في موقف روسيا. حدث ذلك ربيع هذا العام حين تحولت موسكو من إنكار مبدأ تغير المناخ العالمي إلى تبنيه بالكامل. روسيا تشترط الآن الأخذ بالاعتبار الانهيار الصناعي الذي أعقب سقوط النظام الشيوعي، وأدّى إلى انخفاض انبعاث الغازات الدفيئة في روسيا بنسبة 34% مقارنة بعام 1990. وبموجب "كيوتو" يحق لروسيا بيع كمية الغازات التي قامت بتوفيرها للدول الصناعية الغنية المستعدة لشرائها. هل سيعرضها الرئيس الروسي ميدفيديف في المؤتمر للبيع، أم يقايض بها منح بلده "كوتا" تعفي صناعته، التي تنمو حالياً بمعدل 5% سنوياً من دفع "ضريبة كربون"؟ و"أم المعارك" في كوبنهاجن بين أكبر بلدين ملوثين للمناخ العالمي. وكما يقول المثل العربي "البادي أظلم". ومن أظلم من الولايات المتحدة التي تهدد الصين بأن لا تنتظر منها مساعدات مالية لمواجهة مشكلة المناخ، وتعلن أنها غير مدينة قط للعالم بتاريخها في إطلاق غازات الكربون! صرح بذلك تود ستيرن، مبعوث واشنطن إلى المؤتمر، وقال إن الصين التي تملك اقتصاداً ديناميكياً وتريليوني دولار من الاحتياطات المالية لا تعتبر من الدول المحتاجة. وجاء الرد سريعاً من هاي يافاي، المبعوث الصيني إلى المؤتمر، الذي أعلن أنه لا يريد أن يتهم ستيرن بالجهل، "لكنه يفتقر إلى الإدراك السليم، أو عدم الشعور تماماً بالمسؤولية". ودعا المبعوث الصيني الولايات المتحدة إلى أن تقوم بمراجعة عميقة للنفس. مراجعة النفس تقتضي وجود نفس تراجع نفسها، وغياب ذلك هو "الشيء العفن" الحقيقي في مؤتمر كوبنهاجن. يشهد على الغياب ملايين الناس الذين رفعوا يافطات "لا حرب على العراق من أجل النفط". و"النفط هو الدم الذي يجري في عروق العالم الحديث. وإذا كنا سنلغيه في الغد فليس مبالغة القول إن الحضارة قد تنهار". ذكرت ذلك المجلة العلمية البريطانية "نيوساينتست" في افتتاحية عددها للأسبوع الماضي. واعترفت المجلة بأن "النفط الرخيص كان القوة المحركة للنمو الاقتصادي خلال القرن الماضي، في الغرب على الأقل". وقالت: "مهما بلغ يأسنا من الآثار بعيدة المدى لضخ ثاني أكسيد الكربون في الجو، فإن أبعاد أزمة نفطية تماثل ذلك سوءاً، إن لم تكن أكبر، وأكثر مباشرة". الافتتاحية مخصصة لاكتشاف احتياطيات نفط موجودة في الرمال وصفائح الطين النفطية تعادل تسعة أضعاف جميع ما استهلك من النفط السائل لحد الآن. ومع أن هذه الاحتياطيات أكثر تلويثاً من النفط التقليدي، واستخراجها أعلى كلفة، فإنها تدل على أن "الأرض ما تزال تقطر نفطاً، وهذا أمر مبارك" حسب المجلة العلمية المشهورة بحملاتها حول مخاطر استخدام النفط على المناخ العالمي. وكما يقول شكسبير في مسرحية "هاملت": "مع أن هذا جنون، فإن فيه منهجاً". إنه منهج حضارة مجنونة تجري في عروقها دماء ملايين الناس الذين قتلوا في قرن من حروب النفط على العراق.