شهدت أفغانستان بداية الأسبوع الحالي، انطلاق حملة تطعيم ضد فيروس شلل الأطفال، بالاعتماد على نوع من التطعيمات يستخدم للمرة الأولى في التاريخ، هو التطعيم ثنائي التركيب، عن طريق الفم. وقد تم اعتماد هذا التطعيم بناء على توصيات اللجنة الاستشارية المعنية بمكافحة شلل الأطفال، وهي الجهة الفنية الدولية التابعة للمبادرة الدولية للقضاء على شلل الأطفال. واعتمدت هذه التوصيات على حقيقة أن التطعيم الجديد يمكن أن يكون أداة حيوية في القضاء على الفيروس، من خلال توفيره حماية مثالية للأطفال ضد كل من نوعي الفيروس المتواجدين حالياً (نوع 1، ونوع 3). وهو ما من شأنه أن يسهل ويبسط بقدر هائل، من المتطلبات اللوجستية الضرورية لتنفيذ حملات التطعيم في المناطق الخاضعة للصراعات المسلحة. ويأتي هذه التغير الجذري في نوعية التطعيم ضد فيروس شلل الأطفال، نتيجة كون النوع الثاني من الفيروس (نوع 2)، قد اختفى تماماً منذ عام 1999. وهذا النجاح أدى بدوره إلى الاستغناء عن التطعيم ثلاثي التركيب، الذي يحقق الوقاية ضد الأنواع الثلاثة من الفيروس، والاستعاضة عنه بالتطعيمات أحادية التركيب، التي توفر الوقاية ضد نوع واحد من الفيروس، وبفعالية أفضل من التطعيم ثلاثي التركيب، ودون أن تتطلب الكثير من الدعم اللوجستي، والتحضيرات كي يتم توصيلها للمحتاجين لها من الأطفال. وإن كان يعيب هذا التطعيم قصوره عن توفير حماية كاملة في المناطق التي يتواجد فيها نوعا الفيروس (نوع 1، ونوع 3)، وهو ما حدا بالمنظمات الصحية إلى التفكير في تطعيم جديد يحتوي على نوعي الفيروس، مما سيسهل بقدر كبير متطلبات توصيل التطعيم، وتنفيذ الحملات، وخصوصاً في المناطق المنكوبة بصراعات مسلحة منذ سنوات. وهذا الوضع ينطبق إلى حد كبير على أفغانستان. فهذا البلد الذي يعاني من الصراعات المسلحة منذ عقد الثمانينيات، نجد أن معظم مقاطعاته خالية تقريباً من الفيروس، ما عدا المناطق التي لا زالت تشهد عمليات عسكرية. فمن بين كل 31 حالة شلل أطفال جديدة في أفغانستان، نجد أن 28 حالة منها تقع في المناطق الثلاث عشرة الأقل أمناً، بينما لا تظهر إلا ثلاث حالات فقط في بقية المناطق الأكثر أمناً والبالغ عددها 301 منطقة. وهو ما يعني أن انعدام الأمن في منطقة ما، يؤدي إلى ظهور حالات من شلل الأطفال بأعداد كبيرة، مقارنة بالمناطق الآمنة التي تندر فيها الحالات الجديدة. وبالطبع لا يؤدي الصراع المسلح بشكل مباشر إلى العدوى بالفيروس، وإن كان يؤدي بشكل غير باشر إلى إعاقة حملات التطعيم، وإجهاض مفعولها، بسبب المصاعب الهائلة والمخاطر الأمنية التي تواجه القائمين على تلك الحملات، إلى درجة أن منظمة الصحة العالمية توصلت قبل عامين لاتفاق مع زعماء حركة "طالبان"، يسمح بموجبه زعماء الحركة لأكثر من عشرة آلاف موظف صحي بتنفيذ حملة لتطعيم مليون وثلاثمائة ألف طفل في مقاطعتي قندهار وهلمند في الجنوب. ويأتي هذا الاتفاق بين إحدى أهم المنظمات الدولية التابعة للأمم المتحدة، وبين "طالبان"، على رغم غياب الاعتراف الدولي بالحركة، وتصنيفها كمنظمة إرهابية، وسعي قوات "الناتو" لتدميرها عن بكرة أبيها. وهو إن دل على شيء، فإنما يدل على أن جهود القضاء على فيروس شلل الأطفال لابد وأن تتكيف مع الواقع السياسي والعسكري والاجتماعي في المناطق المستهدفة. وللتذكير فشلل الأطفال مرض فيروسي معدٍ، يصيب الأطفال غالباً، وإن كان أحياناً ما يصيب الكبار أيضاً. وينتقل الفيروس المسبب للمرض عن طريق الطعام أو الشراب الملوث، حيث يتضاعف ويتكاثر أثناء تواجده في الجهاز الهضمي، قبل أن يشرع في غزو الجهاز العصبي. وكثيراً ما لا تظهر أية أعراض على من وقعوا ضحية للعدوى بالفيروس، وإن كان هؤلاء يظلون يخرجون الفيروس في برازهم، مما يسبب انتقاله إلى الأشخاص الآخرين. وتظهر الأعراض الأولية للإصابة بالمرض في شكل حمى، وتعب وإرهاق، وصداع، مع قيْء، وتصلب في الرقبة، وآلام مبرحة في الأطراف. وعلى رغم أن غالبية المصابين يتعافون بدون آثار تذكر، إلا أن نسبة قليلة تصاب بالشلل الدائم. وشلل الأطفال أيضاً مرض قديم قدم التاريخ ذاته، حيث توجد سجلات للمرض على قصور ومعابد الفراعنة، إلا أن الجنس البشري لا زال عاجزاً عن العثور على علاج ناجع لمن يصابون به. وإن كان هذا لا يعني أن الطب الحديث لم يحقق انتصارات مهمة وحاسمة أمام هذا المرض اللعين، في شكل تطعيمات ولقاحات فعالة في الوقاية من الإصابة. ويكفي أن نتذكر أن عدد الإصابات بفيروس شلل الأطفال قد انخفض من 350 ألف حالة في عام 1988، أي قبل عشرين عاماً فقط، إلى مجرد 1267 حالة في عام 2004، وهو الانخفاض المرشح للزيادة بسبب حملات التطعيم ضد الفيروس. وهذه الحملات، ونتائجها، ستتسم بزخم جديد في ظل اعتماد التطعيم الجديد ثنائي التركيب، وبدء تطبيقه في أفغانستان، حيث سيتمكن حينها القائمون على حملات التطعيم من الوصول إلى الأماكن والمناطق المنكوبة بالصراعات المسلحة، وتنفيذ حملات تطعيم أكثر فعالية، ربما قد تضع الفيروس يوماً ما في نفس خانة فيروس الجدري الذي نجحت حملات التطعيم المماثلة في القضاء عليه تماماً منذ عقد السبعينيات. د. أكمل عبدالحكيم