بعد ثلاثين عاما تقريباً من انعقاد القمة التأسيسية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في العاصمة أبوظبي تجاوزت فيها دول المجلس الكثير من التحديات والصعاب الاقتصادية والسياسية والأمنية، وبالأخص الحروب الطاحنة في المنطقة التي استمرت لسنوات طويلة، فإن دول المجلس تقف الآن أمام تنفيذ مهام جديدة، تتمثل في الارتقاء بالعمل التعاوني الذي تميز حتى الآن بالمصادقة على اتفاقيات إجرائية أو استشارية بصورة أساسية حتى وصل إلى قضايا سيادية. وتكتسي هذه القضايا أهمية كبيرة لكل دولة، كما أن اتخاذ قرارات بشأنها ربما يستغرق المزيد من الوقت والجهد، على العكس من القرارات الإجرائية، وإذا ما أخذنا منطقة التجارة الحرة، فقد طبقت دفعة واحدة في الاتحاد الأوروبي، وكذلك في مجلس التعاون الخليجي. وربما تشبه المجموعة الخليجية ما هو موجود في المجموعة الأوروبية حيث تتطلب القضايا السيادية المزيد من البحث والتروي، وهذه مسألة طبيعية، إذ أن من الأهمية بمكان أن تمضي دول المجلس قدماً في القضايا الأخرى، حيث أقرت دول المجلس مجتمعة في القمة الأخيرة التي عقدت بالكويت في بداية الأسبوع الجاري عملية الربط الكهربائي ومشروع السكك الحديدية، وجرى الاهتمام بموضوع التعليم والصحة والأمن المائي، كما كان هناك اتفاق تام على مواجهة التحديات الأمنية، وهذه قضايا متفق عليها بين دول المجلس بصورة تامة. وفي موضوع السكك الحديدية يشكل قطار الاتحاد بدولة الإمارات نواة قوية للقطار الخليجي الذي أفردت له مسارات خاصة ضمن جسر البحرين - قطر، الذي يعتبر أطول جسر في العالم، على أن تضاف مسارات مماثلة لجسر البحرين - السعودية، ليرتبط كل ذلك بقطار الاتحاد الإماراتي. أما الربط الكهربائي فسيعمل على ضمان إمدادات الكهرباء لكافة دول المجلس، وبالأخص في أوقات الطوارئ، وذلك بالإضافة إلى توفير مبالغ طائلة بفضل تخفيض تكاليف الإنتاج والاستفادة من الطاقات الفائضة، إذ من المعروف أن الطاقة الكهربائية لا يمكن تخزينها، ولابد من استهلاكها حال إنتاجها، مما يوفر طاقات كبيرة يمكن الاستفادة منها في حالة الربط الكهربائي بين دول المجلس. ولذلك فإن دول المجلس تتعامل مع التفاوتات في وجهات النظر بروح حضارية ومسؤولة، كما أن الخلاف في موضوع بعينه لا يعيق التعاون والتنسيق في القضايا الأخرى موضع الاتفاق، وهذه مسألة راقية لم نشاهدها في العالم العربي الذي جمد تعاونه الاقتصادي عقوداً طويلة لأسباب غير اقتصادية، ويعتبر ذلك بحد ذاته تطوراً إيجابياً كبيراً في آلية عمل المجلس، وفي نضوج العمل الخليجي المشترك. إن مرحلة النضوج التي وصل إليها المجلس تشكل ضمانة قوية لاستمرار تطوره في المستقبل، وخصوصاً أن دول المجلس تحولت إلى قوة تفاوضية عالمية استطاعت أن تحقق العديد من المكاسب لدول المجلس من خلال توقيع اتفاقيات للتجارة الحرة مع العديد من البلدان الكبيرة والتكتلات الاقتصادية، وذلك إضافة إلى كونها المصدر الأول للنفط في العالم، علماً بأنها تستضيف في العاصمة أبوظبي المقر الدائم للوكالة الدولية للطاقة المتجددة "إرينا". لقد أصبحت اقتصادات دول المجلس أكثر ترابطاً وتكاملا خلال الثلاثين عاماً الماضية، حيث ساهمت الاتفاقيات الاقتصادية في ترسيخ التعاون الخليجي الذي سار بصورة بطيئة ولكنها ثابتة، إذ لا زالت الطموحات كبيرة كما أشار الى ذلك قادة دول المجلس الذين أكدوا على ضرورة تنفيذ ما اتفق عليه بشأن التكامل في مجال التعليم والطاقة الكهربائية والمياه والنقل، وهي مواضيع مهمة لبناء بنى أساسية خليجية تتيح المجال أمام إقامة مشاريع تنموية مشتركة واندماج الاقتصادات الخليجية ونقلها لمرحلة متقدمة من التعاون والتنسيق الاقتصادي. د. محمد العسومي