تبنت الحكومة الفرنسية، بطلب من رئيس الجمهورية ومبادرة من وزير الهجرة، طرح خطة لنقاش مسألة الهوية الوطنية تهدف، كما قال الوزير، إلى تقريب آراء الفرنسيين، بصرف النظر عن أصولهم وميولهم السياسية، في موضوع الهوية الفرنسية، وإلى بلورة برنامج عمل "يرسخ" هذه الهوية و"القيم الجمهورية"، ويعزز افتخار الفرنسيين بانتمائهم للأمة الفرنسية. ويدور النقاش عبر اجتماعات على مستوى محافظات فرنسا الـ96 ودوائرها الـ342، إضافة إلى "محافظات ومقاطعات ما وراء البحار" في منطقتي المحيط الهادي والكاريبي، ويشارك فيها منتخبون ومسؤولون تنفيذيون، وفرنسيون من أصول أجنبية، وقادة جمعيات وتنظيمات نقابية وشركاء قطاع التعليم، وممثلو الديانات وغيرها، بالإضافة إلى الناس العاديين الذين خُصص لهم موقع لوضع تعليقاتهم فيه. ويفترض أن تستمر هذه الحملة التي بدأت في 2 نوفمبر 2009 حتى 31 يناير 2010، وذلك لإتاحة الفرصة لمشاركة أكبر عدد ممكن من الفرنسيين. وكانت جريدة "لوباريزيان" قد نشرت في بدايات الحملة نتائج استطلاع للرأي تقول إن المبادرة تحظى بـ60 في المئة من أصوات الفرنسيين، و50 في المئة من أنصار اليسار و72 في المئة من أنصار اليمين، ولا يرفضها سوى 35 في المئة من المستجوبين. ولم ينكر المحللون السياسيون أن إثارة هذه الحملة ترتبط بالاستراتيجية التقليدية لليمين الحاكم الذي اعتاد الضرب على وتر التخويف من المهاجرين لكسب أصوات أقصى اليمين على عتبة الانتخابات المحلية في مارس القادم. من هذه الزاوية لا يختلف هدف الحديث عن الهوية الوطنية الفرنسية اليوم عن هدف الحديث الذي دار سابقاً حول الحجاب في فرنسا ذاتها، أو حالياً حول المآذن في سويسرا. لكن من الواضح أن موضوع الهوية يرفع التوتر إلى مستويات أعلى لأنه يضع المهاجرين أمام معادلة صعبة؛ فمثلا ما هو المطلوب من المسلمين حاملي الجنسية الفرنسية حتى يكونوا فرنسيين؟ وهل هناك درجات في المواطنة الفرنسية بحسب مستوى وقوة التماهي مع الثقافة الفرنسية وقيم الجمهورية؟ هل المطلوب أن يتجرد المتجنسون من أصول أجنبية من شخصيتهم الثقافية، المعنوية والمظهرية، وينحوا نحو الفرنسيين الأصلاء في اعتقاداتهم وتصرفاتهم ولباسهم وأكلهم وشربهم، حتى يحظوا بحماية الدولة وممارسة حقوقهم الأساسية؟ وما هي وضعية أولئك الفرنسيين الذين تركوا المسيحية ليعتنقوا الإسلام، وهم فرنسيون بالأصل؟ ليست هناك هوية خاصة من دون ثقافة خاصة، مهما كان وضع هذه الثقافة. وإذا تم ربط الهوية الفرنسية كليا بالثقافة الفرنسية الأصلية التي هي ثقافة الأغلبية، أو إذا كان شرط المواطنية الفرنسية تطابق الهوية الثقافية لجميع الأفراد مع الثقافة الفرنسية الموروثة... فمن المؤكد أن العرب والأفارقة لن يكونوا فرنسيين، ولن يصبحوا فرنسيين. فهم ظلوا يحملون على مدى ثلاثة أجيال أو أكثر، ثقافتهم العربية والأفريقية، من حيث القيم والأذواق والمشاعر والاعتقادات الدينية. وربما سيستمرون لفترة طويلة غير راغبين في تقمص شخصية الفرنسيين وقيمهم الخاصة. في هذه الحالة يطرح سؤال أساسي: لماذا لم يضع القانون اعتناق الهوية الثقافية الفرنسية كشرط للحصول على الجنسية؟ نقدنا لهذه الحملة ليس دفاعاً عن وضع البرقع أو عن انغلاق بعض المهاجرين على هوياتهم الخاصة، واختيارهم التهميش الذاتي أحيانا، كرد فعل على إنكار وجودهم أو عدم إعارتهم أي اهتمام من قبل الأغلبية الفرنسية... إن هؤلاء يشاركون العنصريين الفرنسيين في حمل المسؤولية عن تهميش جماعاتهم، ويغذون إرادة عزلهم وإخراجهم من الدائرة الوطنية، بوعي أو بدون وعي. ولا شك أن وجود هؤلاء يطرح مشكلة موضوعية على المجتمعات الأوروبية بقدر ما يساهم في تقويض المعايير والقيم التي يستند إليها أي اجتماع سياسي. إن ما نرمي إلى توضيحه هو، أولا أن التشهير بسلوك هؤلاء والخلط المتعمد أو غير المقصود بينهم، وهم أقلية صغيرة، وبين بقية المهاجرين العرب والمسلمين، لا يحل المشكلة بل يفاقمها بمقدار ما يعمل على تحطيم ثقة الجميع بإمكانية الاندماج في المجتمعات الأوروبية. وثانيا أن الهوية لا تُملى على الأفراد والجماعات، ولا يمكن فرضها بأوامر سياسية أو عسكرية أو إدارية، وليست حتى مسألة إقناع فكري أو استنارة عقلية، كما أنها ليست معطاة مرة واحدة وإلى الأبد، بل هي مسارات تاريخية متحولة ومتنامية باستمرار. وبقدر ما يشعر المهاجرون أنهم في وطنهم بالفعل، يتشربون القيم والمبادئ والمعايير التي ترتبط به وبثقافة الأغلبية فيه. باختصار، يشكل المهاجرون أقلية ثقافية ودينية حقيقية في فرنسا وأوروبا عموما. ولا تساعد سياسات الضغط والإكراه والتشهير على اندماج الأقليات ولا تقريبها من قيم الأغلبية التي تمارس هذه السياسة، بل تدفعها إلى الابتعاد عنها أكثر والوقوف ضدها وربما تحديها ومعارضتها. وفي أوروبا وغيرها، لا علاج لانعزال الأقليات سوى تطمينها على حقوقها ووجودها، واحترام شخصيتها واعتقاداتها، ومساعدتها على الاندماج في الحياة الوطنية، بما يعنيه ذلك من فرص مفتوحة لارتقاء أفرادها في السلم الاجتماعي ومن مشاركة متزايدة في المسؤوليات العمومية. ومن المؤكد أن التوتر سيستمر بين الأغلبية والأقلية المهاجرة في جميع الدول الأوروبية، طالما بقيت الفجوة واسعة بين الثقافة الأوروبية القديمة والثقافات الإسلامية والأفريقية الوافدة. لكن لن تضيق هذه الفجوة، لصالح نشوء تسوية بين الثقافتين، إلا عندما يتحقق دمج الوافدين وتمكينهم من المواطنية الفعلية. ففي هذه الحالة وحدها يحصل فرز طبيعي عند الأقليات الوافدة بين ثقافتها الخاصة وثقافتها العامة التي تلتقي مع ثقافة الأغلبية، وتتحول خصوصيتها إلى خصوصية ثقافية غير حاملة لأي مطالب سياسية خاصة. لكن حتى في هذه الحالة لا ينبغي انتظار مطابقة كلية بين ثقافة الأقليات وثقافة الأغلبية لأن مثل هذه المطابقة تعني فعليا محو الشخصية الجماعية، أي محو الأقلية كأقلية دينية أو إثنية. وهذا الأخير ما تهدف إليه الحملة الفرنسية الراهنة باسم الهوية الوطنية، لذلك فبدل أن تقصر فترة التوتر وتسرّع الاندماج، فهي تهدد بتفجير نزاعات لا ضرورة لها. إنها تهيج مشاعر اليمين المتطرف الذي يحلم بإرجاع التاريخ إلى الوراء، وتصفية الأقليات وطردها، وهذا هو مغزى تساؤل رئيس بلدية فرنسية: لماذا نأوي عشرة ملايين شخص لا يفيدون في شيء؟ ولن يقدم شحن مشاعر الكراهية وتعميق روح العنصرية أي فرصة لتوحيد الأمة الفرنسية ولا لترسيخ هويتها الوطنية، بقدر ما يقوض أخلاقيات شعوب أوروبية هي صاحبة الفضل الأول في نشر أفكار الحرية وحكم القانون والمساواة السياسية والأخلاقية والقانونية بين جميع المواطنين. إن هوية فرنسا الوطنية، كبقية الأمم والشعوب، ليست محفورة في جينات الفرنسيين، لكنها ما يصنعه التاريخ ويحوره عبر التفاعلات الكثيرة، على مستوى انتقال البشر والأفكار والأذواق والسلع والخدمات. وفي عصر الانفتاح العالمي، تخسر أوروبا كثيرا إذا اعتقدت أن الحل لـ"غزو" الثقافات الأخرى لها، هو في الانغلاق على نفسها والتقوقع حول قيمها وثقافتها الموروثة. وهذا صالح أيضا للعرب والمسلمين أنفسهم، المهاجرين والأنصار على حد سواء. فالهويات جميعا، سواء أردنا ذلك أم لا، مسارات مفتوحة على التاريخ، قابلة للتحول والتنوع والتعدد لأنها صيرورة حية، وتــأويلات رمزية، لا ماهيات ثابتة ولا خصائص أبدية. والهوية الفرنسية اليوم، تنحو إلى أن تكون أكثر فأكثر توليفية، تغتني بالروافد والمساهمات، وتقطع مع التصورات الإثنية البدائية. والذين يريدون بقاءها جامدة، يحكمون على فرنسا بالموت وبخيانة قيمها الجمهورية التي يعلنون الدفاع عنها.