نقف بمصر في آخر مراحل تجوالنا مع "فيليب طرازي" حول تاريخ الصحافة العربية، بعد أن استعرض لنا تطورها في بلاد الشام وأوروبا والأميركيتين. ويقول مؤرخ الصحافة إن انتشار صحافة مصر في حقبتها الأولى، قبل عام 1869، كان لثلاث صحف هي "الوقائع المصرية" و مجلة "وادي النيل" ومجلة "يعسوب الطب"، دون سواها. فما كاد يلوح هلال الحقبة الثانية 1869 -1892، حتى أخذت الصحف تنتشر بكثرة في مدينتي القاهرة والاسكندرية ولم تتعداهما. ويضيف: "وكان معظم أرباب الصحف والمحررين فيها من المسيحيين السوريين الذين سبقوا غيرهم من الناطقين بالضاد في هذا الفن، ومنهم تعلم المصريون وتنبهوا الى إنشاء الجرائد بكثرة، فإن السوريين تركوا بلادهم لائذين بحمى الخديو إسماعيل لأن شهرة كرمه طبقت الخافقين. فكان يمدهم بالمال ويسهل لهم سبل الرزق ويشد أزرهم في كل الأمور طمعاً بما كانت تتوق إليه نفسه من حب الاستقلال... وقد ساعده وزراء مصر في تعزيز هذه الحركة الأدبية كعلي باشا مبارك وعبدالله فكري". ولا يقصد "طرازي" أن السوريين واللبنانيين هم الذين أدخلوا إلى مصر فن الصحافة، فمصر كانت موطن أولى الصحف العربية، لكنه يقصد ازدهار الصحف التجارية غير الرسمية. ويقول إن حرية الصحافة "كانت مطلقة في أيام الخديو إسماعيل"، لكنه، كما قال جرجي زيدان: "لم يكن يصبر على من ينتقده، فكان الكتاب يراعون جانبه، ومن تجاسر على انتقاده أصبح في خطر، كما حدث لمدير "الأهرام" لما أشار الى مال صُرف من الخزينة ولم يُعلم مصيره. ولو لم تنصره فرنسا لذهب ضحية الملاحظة". وكانت "الأهرام" في مقدمة الجرائد المصرية خلال هذه الحقبة. وبعد الاحتلال الإنجليزي عام 1882 انقسمت الصحف، يقول "طرازي"، إلى حزبين كبيرين "أحدهما احتلالي ينتصر للإنجليز مستحسناً خطتهم، والآخر وطني يقبِّح سياستهم، منادياً بضرورة جلائهم عن وادي النيل". وكانت "المقطم" تناصر الاتجاه الأول، و"المؤيد" الاتجاه الثاني. وكان قسم من الجرائد المصرية يندد بالدولة العثمانية، وقسم آخر يذود عنها. وكانت بعض الصحف، كـ"الأهرام"، "تناصر الفرنسيين وتحاسن العثمانيين". ويتحدث المؤرخ "جرجي زيدان" في كتابه "تراجم مشاهير الشرق" عن "سليم بك تقلا" مؤسس جريدة "الأهرام"، ومما قاله للمؤلف: "أنشأت الأهرام وأنا عالم بما يحول دون نشرها من المصاعب، فكنت أقضي النهار والليل عاملاً، وكنت أحررها وأديرها وألاحظ عَمَلَتها (موظفيها) وأكتب أسماء مشتركيها وأتولى أعمالها مما يقوم به الآن عشرة عمال". ويضيف زيدان أن "الأهرام" صدرت أولاً كأسبوعية ولم يستطع صاحبها نشرها يومية إلا بعد زمن طويل. وفي عام 1892 أصيب "تقلا" بمرض صدري، "فأشار عليه الأطباء بالذهاب إلى سوريا لتبديل الهواء... فسار لكن القضاء المبرم كان في انتظاره هناك". وكانت "الأهرام"، حسب طرازي، رائدة في الارتباط بالصحافة الخارجية. ففي عام 1913 اتفقت مع إدارة "الديلي تلغراف" في لندن على أن توافيها الثانية بأنبائها البرقية الكونية... أي الأخبار الدولية يوميا، خاصة ما يتعلق بالشرق الأدنى. ومن أبرز الصحف التي ناصرت الإنجليز "الجريدة المصرية" و"المقطم"، وجاء في العدد 268 عام 1888 من "الجريدة المصرية" تحت عنوان "كلمة حق"، ما يلي: "استلفتت جريدة الوطن في عددها الأخير أفكار القراء إلى سلوك الإنجليز في حسن معاملاتهم للأمم التي يحلون في بلادها ويديرون أمورها وأعمالها. فرأيناها كلمة حق وعدل، لما نعلم من أن الموظفين الإنجليز لا يوجهون التفاتهم الدائم بنوع خاص إلا مراعاة أخلاق وعادات الأهالي الذين يتولون إدارة شؤونهم. وهذا هو سر النجاح في سياسة الدولة الإنجليزية بصفة دولة مستعمرة، فكأننا بجريدة الوطن قد أصابت المرمى فيما نطقت به حقاً وصواباً". وهكذا كانت هذه الصحيفة، كما يصفها طرازي، "لسان حال الاحتلال الإنجليزي، تصدع بأوامره وتذيع آيات فضله". أما "المقطم"، فيقول عنها ما يلي: "وقد جرت على خطة الاحتلال الإنجليزي تعزز أركانه وتناصره في مبادئه وتنطق بلسان حاله، مع المحافظة على صوالح القطر المصري. وعن "الأهرام" قال الشيخ علي يوسف، عام 1901، إنها "ثبتت بين زلازل الحوادث في ربع قرن ثبات تلك الأهرام الشامخة في أربعين قرناً". ويضيف أنه "بعد حدوث مذبحة الاسكندرية سنة 1882 هجم الثائرون على مطبعة الأهرام فأحرقوها لأنها كانت مناصرة للخديو ضدهم، فاضطر بنو تقلا إلى نشر جريدتهم في مطبعة غريبة ريثما ابتاعوا مطبعة جديدة". وعن اتجاه "الأهرام" يقول طرازي: "كانت خطة الأهرام الداخلية مصرية عثمانية، بمعنى أنه يجب أن تكون مصر للمصريين تحت سيادة الدولة العثمانية. وكانت سياستها الخارجية تميل إلى فرنسا لعدة أسباب ذاتية وعامة. فأما الأسباب الذاتية فهي أن فرنسا حمت مؤسس الأهرام من إسماعيل باشا أيام سجنه، وكان على وشك أن يأمر بقتله. وأما الأسباب العامة فهي أن الخطة التي جرت عليها فرنسا لولاها ما كان في الشرق بلد يستطيع أحد أن يعيش فيه ويجاهر بآرائه وأقواله". ويضيف طرازي أن موقف "المقطم" كان سبباً لنهوض الشعور الوطني بين المصريين، فنقموا عليها وأصحابها وأنشأوا الجرائد الوطنية لمقاومة الاحتلال ومريديه. ونختتم حديثنا عن صحافة مصر في هذه المرحلة بالإشارة إلى مجلة "الهلال" الشهرية التي بدأ صدورها في سبتمبر 1892 ولا تزال مستمرة حتى اليوم. وقد أنشأها وأدارها المؤرخ جرجي زيدان الذي جعل أخاه "متري" مديراً لها، ونجله البكر "إميل" مساعداً له في تحريرها، وكانت أوسع المجلات العربية انتشاراً.